top of page

البيت الذي لم يغادره صاحبه… حين تصير الذاكرة واجبًا وطنياً



غادرت باتومي في الصباح ، متجهًا نحو الحدود الجورجية-التركية، التي لا تبعد أكثر من عشرين كيلومترًا. على الجانب التركي، كانت السيارة بانتظاري—تنسيق رتبه بعناية أخي وصديق العمر، الدكتور ناصر المنصوري، الذي اعتاد قضاء عطلته الصيفية في مدينة طرابزون، المدينة التي طالما سحرت الزائرين بجمالها الهادئ وتضاريسها الخضراء المطلة على البحر الأسود.


امتد الطريق بين الحدود وطرابزون لمسافة تقارب 180 كيلومترًا، وعلى جانبيه تنوعت المشاهد بين البحر من الغرب، حيث الموج يلامس الصخور، وسلاسل جبلية خضراء تتصاعد شرقًا، تتخللها شلالات صغيرة وقرى متناثرة كأنها حكايات تنتظر من يرويها.


كان الدكتور ناصر، وهو خبير في تخطيط الطرق والمدن، رافقته في محطة مهمة من حياتي المهنية حيث كان وكيلا لدائرة التخطيط ( وزارة التخطيط في إمارة ابو ظبي )في دولة الإمارات في تسعينيات القرن الماضي. كان يعلم جيدًا شغفي بتاريخ المدن وذاكرة الأماكن، فاقترح علي التوقف في مدينة أرزينجان (أو كما يسميها البعض “أرزي”)، حيث يوجد منزل منسوب لمصطفى كمال أتاتورك.


محطة عابرة… لكنها لا تُنسى


في أحد أحياء أرزينجان الهادئة، وعلى سفح منخفض لا يكاد يُرى من الطريق السريع، وقف بيت أتاتورك هناك، متواضعًا من الخارج، لكنه مشبع بالرمزية. المبنى عبارة عن منزل من طابقين، بني بالحجر والخشب، بواجهات بيضاء ونوافذ واسعة تطل على الحقول المحيطة.


ما إن ولجتُ إلى الداخل، حتى شعرت أنني أدخل زمناً مختلفاً. الغرف بسيطة، خالية من البهرجة، لكنها تحتفظ بأثاث أصلي، ولوحات فوتوغرافية نادرة تُظهر أتاتورك في زياراته إلى شرق الأناضول. في إحدى الزوايا، رُصّت كتب باللغة العثمانية، وإلى جانبها خريطة قديمة لتركيا ما بعد الجمهورية. هناك أيضًا آلة كاتبة ومكتب خشبي، قيل لي إن أتاتورك استخدمه خلال إحدى زياراته الرسمية للمنطقة.


كانت الزيارة قصيرة، لكنها مكثّفة بالمشاعر. فحتى في بيت متواضع كهذا، تشعر بأن الرجل الذي غيّر وجه تركيا ترك أثره في كل زاوية وكل تفصيلة.


إلى طرابزون… حيث الذاكرة الكبرى


بعد تلك الوقفة القصيرة، أكملت رحلتي نحو طرابزون. وبعد الضهر ، وصلت إلى المدينة، وتوجهت إلى بيت أتاتورك الواقع في منطقة بوزتيبي، حيث يقف شامخًا على تلة خضراء مطلّة على البحر الأسود، وكأنما يحرس الذاكرة الحديثة للجمهورية التركية .


بُني هذا القصر عام 1890 على يد المواطن العثماني كونستانتين كباياندي، ليكون منزلاً صيفيًا لعائلته من أصول يونانية أو أرمنية. غير أن كل شيء تغيّر بعد اتفاقية لوزان عام 1923، حين تم تنفيذ اتفاق تبادل السكان بين تركيا واليونان، فغادر مئات الآلاف من المسيحيين الأرثوذكس البلاد، واستُبدلوا بمسلمين من أصول أناضولية عاشوا طويلاً في اليونان. وهكذا، تحوّلت ملكية القصر إلى الدولة التركية، كما تحوّلت مصائر كثيرة، وبقيت الجدران صامتة، تحفظ الحكايات في طياتها.


في 15 أيلول/سبتمبر 1924، زار مصطفى كمال أتاتورك القصر للمرة الأولى، وكان قد أسّس الجمهورية التركية قبل أقل من عام. ربما شعر بأن هذا المكان يعكس ما كان يصبو إليه: أن يكون لتركيا وجهٌ جديد، عصريٌ وأصيلٌ في آنٍ معًا. في زيارته الثانية عام 1930، اتخذ قرارًا رمزيًا بأن يترك ممتلكاته للدولة التركية، في لفتة تجسّد مفهوم الدولة الوطنية الذي أراد ترسيخه.


وبعد وفاته، قامت بلدية طرابزون في 6 نيسان/أبريل 1943، وزيّنته، وافتتحته متحفًا يحمل اسمه. ومنذ ذلك الحين، صار “بيت أتاتورك” مقصدًا لمن أراد أن يتلمّس لحظة من التاريخ لا تُروى في الكتب وحدها.


حين يتكلم الحجر


ما إن تخطو داخل القصر، حتى يغلفك شعور بالهيبة والسكينة. الجدران مزيّنة بزخارف ناعمة من طراز كلاسيكي، والسقف العالي تتدلّى منه ثريات كريستالية تلمع رغم العقود. الأرضيات من الخشب العتيق، تتناغم مع سجاد شرقي يذكّر بزمن كانت فيه الفخامة مرادفًا للبساطة المدروسة.


الغرف مصمّمة بدقة، تحتفظ بعبق الماضي: مقاعد خشبية بمساند منحوتة، طاولات رخامية، مرايا مذهبة، وساعات حائط لا تزال تدقّ بصبر، كما لو أنها ترفض الاعتراف بمضيّ الزمن. وفي زاوية هادئة، مكتب صغير يُقال إن أتاتورك جلس عليه، وخطّ فيه أفكارًا تشكّلت لاحقًا في سياسات ومواقف.


القصر مكوّن من ثلاث طوابق، لكل طابق روحه: في الأعلى، غرفة نومه البسيطة. لا بذخ فيها، بل صفاء وسكون. كأنها لم تكن مكانًا للراحة فقط، بل موضعًا للتأمل في مصير وطن وعبء القيادة.


الحديقة… فصل من الجمال الخالص


خارج القصر، تمتد حديقة غنّاء تشبه لوحة انطباعية نُسجت بريشة فنان. أشجار شامخة، زهور متنوّعة الألوان، ومسارات حجرية تتلوى بين العشب كأنها تدعو الزائر إلى السير ببطء، لا ليستكشف فقط، بل ليستشعر. في أحد أطراف الحديقة، مقعد خشبي يطل على البحر والمدينة. جلست عليه لحظات، وتخيلت كمال أتاتورك في يوم صيفي، ينظر إلى الأفق، يتأمل ما تحقق من حلمه الكبير… وما لم يتحقق بعد.


ما يميّز القصر ليس فقط تاريخه، بل معماره الأوروبي، المبني بالحجر والطوب، الذي يعكس أثر الحضور الغربي في شرقٍ كان يتغيّر بسرعة. إنه بيت يحكي حكاية تركيا المتأرجحة بين الشرق والغرب، بين الأمس والغد، بين الإمبراطورية والجمهورية.


وحين غادرت المكان، كان في ذهني صدى الفكرة التي تراودني كلما زرت موقعًا تاريخيًا حقيقيًا: أن التاريخ لا يُكتب فقط بالحبر، بل يُكتب أيضًا بالحجر، والخشب، والضوء المتسلل من نافذةٍ قديمة.



المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
القراءة … ارتقاء الروح والعقل

القراءة… ارتقاء الروح والعقل د. علاء التميمي تشرين الاول ٢٠٢٥ القراءة ليست رفاهية، ولا ترفًا يمارسه أصحاب الوقت الفارغ؛ إنها أمر من السماء، نزلت به أول كلمة في الوحي: اقرأ. ومنذ تلك اللحظة الأولى، صار

 
 
 

5 تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
Dr Alaa Al Tamimi
Dr Alaa Al Tamimi
30 يوليو

التاريخ ربما نقرأه في الكتب وغالبا ما يكتبه المنتصر

اما الآثار الباقية فهي حقيقة ذلك التاريخ

شاكرا مروركم

مودتي

إعجاب

Dr Alaa Al Tamimi
Dr Alaa Al Tamimi
30 يوليو

نعم الأوطان باقية والحكام زائلون

شكرا لمروركم

إعجاب

الضيف
06 يوليو

الله الله الله. نادرا ما تجد من يكتب عن هذه التحف التاريخية النادرة في عمق الجبال وياخذك الخيال كيف تم بناء هذة الكنيسة في ذلك الزمن . انه الايمان بما تعتقد يصنع المستحيل . دائما ما تتحفنا اخي العزيز بهذه المنشورات البديعة .

إعجاب
Dr Alaa Al Tamimi
Dr Alaa Al Tamimi
30 يوليو
الرد على

ممنون لمروركم وملاحظاتكم القيمة

إعجاب

الضيف
05 يوليو

اكثر من رائعة . القادة يرحلون سواء كانو سيئون او جيدون تبقى اثارهم جزءا من تاريخ الشعوب لا يمكن أن تمحى

إعجاب
bottom of page