حين يحفر الايمان مسكنه في الجبل
- Alaa Tamimi

- 6 يوليو
- 2 دقيقة قراءة
حوالي الساعة العاشرة صباحا ، انطلقنا – أنا والدكتور ناصر، ومع الأصدقاء الأعزاء شاكر وفريد، برفقة السائق التركي ذو الوجه الباسم سليمان – في باص مريح نحو واحدة من أعاجيب تركيا المخفية: دير سوميلا.
ارتدينا أحذية مريحة ومعاطف خفيفة استعدادًا للمشي تحت المطر والصعود الشاق، للاستمتاع بالمناظر الخلابة للوادي والغابات المحيطة.
دير سوميلا، أحد أشهر المعالم التاريخية والدينية في تركيا، يقع على سفح جبل شديد الانحدار في منطقة ماكا، قرب طرابزون على ارتفاع حوالي 1200 متر فوق مستوى سطح البحر، محاطًا بغابات كثيفة.
عند سفح الجبل كان الدير يبدو كأنه معلّق بين الأرض والسماء، يطل على وادٍ أخضر يعانق الضباب ويعود تاريخه لأكثر من 1600 عام. تأسس في القرن الرابع الميلادي، عندما ظهرت السيدة العذراء في حلم لراهبين يونانيين، أمرتهما ببناء كنيسة في هذا المكان. منذ ذلك الحين، أصبح الدير ملاذًا روحيًا ومزارًا للرهبان والمحبين للعزلة.
خلال عصر إمبراطورية طرابزون، ازدهر الدير كمركز ديني مهم للمسيحيين الأرثوذكس، وكان الوصول إليه يتطلب تسلق ممرات صخرية ودرجات منحوتة في الجبل. لم يكن هناك طرق معبدة بالمعنى الحديث، بل كانت المسارات الطبيعية والسلالم الحجرية البسيطة هي الوسيلة الوحيدة للوصول.
بعد فتح العثمانيين لطرابزون عام 1461، سمح السلطان محمد الفاتح للدير بالاستمرار في نشاطه الديني.
توقفت السيارة بعد ان ابتعدنا حوالي ٥٠ كيلومتر من مدينة ترابزون حيث غادرناها وبدأنا مسار الصعود الصعب، الذي قد يبدو قصيرًا، لكنه كان شاقًا، حيث صعدنا حوالي 400 متر.
ما إن بدأنا التسلق عبر المسارات الحجرية، حتى شعرت وكأننا نرتقي نحو طبقات أخرى من الزمن. كانت الطرق ملتوية، تحفّها أشجار شاهقة وصوت المياه المنحدرة من الجبال. ومع كل خطوة، كانت الرهبة تتعاظم، حتى بدت واجهة الدير كأنها نبتت من الصخر نفسه، كنقش أبدي لا يمكن محوه.
يتكون الدير من كنيسة كهفية مزينة بجداريات فريسكو مذهلة تُصور مشاهد من حياة السيد المسيح والعذراء، تحيط بها غرف الرهبان ومكتبة ومطبخ. كان الدخول أشبه برحلة إلى قلب الصمت، حيث يتحدث الحجر وتهمس الظلال، ويشبه الضوء المتسلل من نوافذ صغيرة الصلاة.
تخيل نفسك مكان أحد رهبان دير سوميلا قبل مئات السنين...
الصعود إلى الدير كان رحلة شاقة بلا طرق معبدة أو سلالم مريحة. كنتَ تحمل مؤونتك على ظهرك، تتسلق الصخور بيدين مرتعشتين، بينما الرياح تضرب جسدك النحيل. في الشتاء، كان البرد القارس يتسلل إلى عظامك، وفي الصيف، تذوب تحت أشعة الشمس الحارقة.
لكنك مع ذلك تصعد، لأن إيمانك أقوى من الخوف.
للراهب الدير ليس مجرد مبنى، بل هو ملجأ الروح. بين تلك الجدران الصخرية، تشعر أنك أقرب إلى السماء.
اليوم، الزوار يأتون بسهولة بالسيارات والمسارات الممهدة، لكن ذكرى أولئك الرهبان ما زالت عالقة في كل حجر من أحجار الدير... تذكير بأن الإيمان الحقيقي يحتاج إلى صبر وتضحيات.
عدنا إلى طرابزون مع حلول الساعة الثالثة عصرًا، فتوجهنا مباشرة إلى زيارة جامع آيا صوفيا، الذي كان سابقًا كنيسة بيزنطية، ثم تحول إلى مسجد بعد سيطرة العثمانين، ثم إلى متحف، ليعود الآن جامعًا تتقاطع فيه الروايات وتتصافح فيه الحضارات.
جامع آيا صوفيا في طرابزون هو مبنى يعكس طبقات التاريخ تحت قبة واحدة، حيث يتداخل فيه عبق الزمان وجمال العمارة. في باحته الهادئة، تداخلت أصوات الطيور مع أصداء المصلين. تأملت الزخارف القديمة والفريسكات التي لا تزال تحتفظ ببعض من بريقها، رغم مرور القرون.
بينما كانت الشمس تميل نحو المغيب، وبعد يوم حافل تناولنا غذائنا في المطعم المطل على البحر، نستعيد تفاصيل الرحلة، وكأنها تختتم فصلاً من فصول التأمل في التاريخ والدين والإنسان.


تعليقات