
طرابزون في اربعة ايام :حكاية مدينة
- Alaa Tamimi

- 8 يوليو
- 3 دقيقة قراءة
بين “المائدة” والحرير: فاتحة الحكاية
قبل أكثر من ٢٦ قرنًا، اختار تجار يونانيون هضبةً تُشبه المائدة — “Trapizu” باليونانية — وشقّوا على قمّتها مدينةً ستصبح عقدةً رئيسة على طريق الحرير. هكذا وُلدت طرابزون، ملتقى القوافل بين أوروبا وآسيا، وحاضنة تاريخ لا يزال ينبض في حجارتها حتّى اليوم.
مهندسًا ومخطّطًا حضريًّا، أحمل معي إلى أي مدينة أزورها أسئلةً عن كفاءتها في خدمة سكّانها، ومرونتها في وجه الكوارث والنمو، وقدرتها على صون هويتها. في طرابزون وجدتُ إجاباتٍ تتوالد مع كل منعطف، فأضحت رحلتي أكثر من سياحة؛ أصبحت درسًا حيًّا في كيفيّة موازنة الذاكرة بالحاضر والمستقبل.
اليوم الأوّل | توقيع البحر والجبال
مع أول نفحة هواء رطبة من البحر الأسود، بدت لي طرابزون لوحةً من فيروز وأخضر. الميناء القديم يتمسّح بأقدام الجبال، والحدائق المحاذية ترقّص ظلالها على الماء. بعد الظهيرة صعدتُ إلى قصر أتاتورك: مبنى أبيض يعانق السماء منذ مطلع القرن العشرين، بزخارف كلاسيكية جديدة وحدائق يانعة. هنا حاولت النخبة التركية آنذاك أن تُعلن انفتاحها على الحداثة الأوروبية، وأن تخلُق لنفسها هويةً جديدة دون قطع جذورها العثمانية.
اليوم الثاني | إلى ديرٍ معلّق بين الغمام
فجرًا، انطلقتُ مع أصدقائي عبر غابةٍ تهمس بصوت الجداول نحو دير سوميلا المحفور في صخر شاهق. كلّما ارتفع الطريق، بدا وكأنّ الجبل يلتهمنا ليُخفينا عن العالم. وعندما لاح المبنى الحجريّ في حضن الجرف، أحسستُ أنّني أقف على عتبة أسطورة معلّقة في الهواء منذ القرن الرابع الميلادي. هنا تلتقي الروحانية الأرثوذكسية بخشونة الطبيعة لتُبرهن أنّ الإنسان يستطيع تحويل الوعر إلى ملاذٍ سماوي. ليس غريبًا إذن أن يصبح آب/أغسطس موسمَ حجٍّ للمسيحيين الأرثوذكس إلى هذا المكان.
اليوم الثالث | قلب المدينة القديم… وتلك الأصداء
عدتُ إلى حضن طرابزون القديمة، حيث البازار ما زال يزقزق كعصفورٍ عجوز يعرف أسرار التجّار. بين الأزقّة، قادني أذان العصر إلى مسجد جولبهار خاتون: مثالٌ على كيف كانت العثمانيةُ توفّق بين العبادة والحياة اليومية، فالمسجد لا ينفصل عن السوق ولا المدرسة ولا البيت. ثمّ تابعتُ إلى آيا صوفيا طرابزون — الكنيسة البيزنطية التي صارت مسجدًا ثمّ متحفًا — فقرأتُ على جدرانها المخطوطات الجدارية وكأنّها حوارٌ صامت بين فنَّين: بيزنطيٍّ ينسج الفسيفساء، وعثمانيٍّ ينقش الأقبية.
اليوم الرابع | طرابزون الحديثة ترسم وجهها
أردتُ أن أختبر نبض الحاضر، فذهبتُ إلى أحياء بيليتلي ويومرا وبوزتبه. شوارع واسعة، مباني متوسطة الارتفاع، ممرات مشاة ودراجات، ومراكز تجارية تتربّع بثقة. ما شدّ انتباهي هو الامتداد الطولي للمدينة بين البحر والجبال: توسُّع يقرأ تضاريسه قبل أن يخطّط، فيحافظ على التهوية الطبيعية ولا يبتلع الساحل. الكورنيش الجديد يُعيد ربط الناس بمياههم: حدائق، مقاهٍ مفتوحة، وممشى يشرّع الزرقة للجميع لا لمستثمرٍ يضع حاجزًا أسمنتيًّا بين المدينة وبحرها.
في المقابل، ما تزال نواة أورطه حصار التاريخية تنبض بأزقتها المتعرّجة وبيوتها العثمانية المتلاصقة، تخضع لترميمٍ يُبقي على روح الخشب والحجر ويضيف بنية تحتية تناسب القرن الحادي والعشرين. هكذا يتجسّد مبدأ المدينة المستدامة: الحفاظ على الماضي، وامتصاص حاضرٍ سريع التحوّل، والتأهب لمستقبلٍ يطرق الأبواب.
خلاصة المسافر والمخطِّط
طرابزون ليست مزارًا عابرًا على شاطئ البحر الأسود. إنّها مختبرٌ حضريّ يبرهن أنّ التوازن بين الذاكرة والتنمية ممكن إذا احترمنا الجغرافيا وأصغينا إلى تاريخ المكان. في أربعة أيّامٍ فقط، انتقلتُ بين معابد معلّقة، وأسواقٍ تنبض، وأحياءٍ حديثةٍ تنحت مكانًا بين جبلٍ وبحر. رأيتُ مدينةً تُجيد سرد قصّتها بلا كلمات؛ يكفي أن تلمس حجارتها، أو تتبع نداء الموج، لتفهم حكايتها.
طرابزون، باختصار، ميناءٌ قديم تحوّل إلى مدينةٍ ديناميكية، تحاول معالجة تحدّيات الإدارة البيئية والنمو السكاني دون أن تتخلّى عن هويةٍ صاغتْها الحضارتان البيزنطية والعثمانية معًا. وهي تقدّم درسًا ثمينًا لكل مدينةٍ تتطلّع إلى المستقبل: لا تنمو على حساب ذاكرتك، ولا تتجمّد تحت وطأة تاريخك.

اشكر مروركم وسعيد بملاحظتكم
مودتي
طرابزون في أربعة ايام ........ في كل مرة نكتشف ابداعا جديدا . ذهبت إلى طرابزون العام الماضي واعجبتني وبعد قراءة ما كتبت اعجبتني اكثر . تبقى مدوناتك يا اخي العزيز من أروع ما يكون