وجوه البلقان: حين تتكلم الذاكرة وتغني الشعوب
- Alaa Tamimi

- 20 يوليو
- 3 دقيقة قراءة
في البلقان، لم تكن الطرق وحدها ما عبرناه، بل عبرنا قلوبًا مفتوحة ووجوهًا دافئة. شعوب هذه المنطقة، رغم ما شهدته من انقسامات وصراعات، تستقبلك بودّ فطري… كأنهم يعرفونك من قبل، يفتحون لك قلوبهم قبل بيوتهم، ويقدّمون لك ابتسامة ممزوجة بالتاريخ والترحاب.
شعرتُ أن لكل بلد في هذه الرحلة روحًا محليةً يعتز بها: طعامه، علمه، رقصاته الفلكلورية… لكن خلف هذا كله، يهمس الموروث العثماني بلطف في خلفية المشهد: في نغمة موسيقية، أو طراز معماري، أو طبق بوريك ساخن يخرج من فرن حجري في زقاق قديم.
في الساحات، تتحدث التماثيل عن أبطال الأمس، وتلوح الأعلام فوق الأبنية الرسمية وكأنها تذكّر المارة أنهم أبناء ذاكرة لا تُنسى. هذا الاعتزاز بالتاريخ يتجلى ليس فقط في المظاهر، بل في الأحاديث اليومية التي لا تخلو من الحنين أو الفخر.
ولفهم البلقان اليوم، لا بد من الالتفات إلى الأمس القريب. فالكثير من هذه الدول كانت يومًا جزءًا من دولة واحدة: يوغسلافيا، التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى وتجمّعت فيها قوميات متعددة تحت راية واحدة. بدا هذا الاتحاد متماسكًا لعقود، خاصة في ظل حكم الرئيس جوزيف بروز تيتو، لكنه كان هشًا في العمق، يُخفي وراءه توترات قومية ودينية كامنة.
ومع بداية التسعينات، ومع انهيار المعسكر الشرقي، تفكك الاتحاد اليوغسلافي وتحولت الخريطة إلى شظايا: البوسنة، كرواتيا، صربيا، مقدونيا، كوسوفو، والجبل الأسود. ولم يأتِ الانفصال سلميًا دائمًا، بل كانت الحرب هي اللغة السائدة، خصوصًا في البوسنة التي عرفت واحدة من أعنف الحروب في أوروبا الحديثة.
أما كوسوفو، فهي فصل خاص من فصول هذا التاريخ المضطرب. بعد سنوات من التوتر تحت الحكم الصربي، أعلنت استقلالها عام 2008، لتصبح دولة معترف بها من أكثر من مئة دولة، لكن صربيا لا تعترف بها حتى اليوم، ولا تزال العلاقة بين الطرفين متوترة. خلال رحلتنا، عبرنا الحدود من كوسوفو إلى صربيا دون علم مسبق، فوجدنا أنفسنا في منطقة رمادية من الناحية السياسية، وكأن الجغرافيا تسبق الخرائط الرسمية، وتختبر المسافر بما لا تقوله الكتب.
وفي مقابل هذا، كانت زيارتنا إلى ألبانيا تجربة مختلفة؛ بلد لم يكن جزءًا من يوغسلافيا، بل عاش عُزلة طويلة في ظل حكم الشيوعي أنور خوجة، الذي أغلق البلاد أمام العالم لعقود. ورغم انفتاح ألبانيا في السنوات الأخيرة، لا تزال تحتفظ بجوّ خاص: مزيج من حنين للتقاليد واندفاع نحو التغيير. لمستُ ذلك في تيرانا الحديثة، وفي الأسواق الشعبية في شكودير، وفي نظرات الأطفال الذين يحملون ملامح البحر والجبال في آنٍ معًا.
أما الفروقات بين هذه الشعوب، فقد كانت مثيرة للتأمل:
اللغة تتشابه في البوسنة وصربيا ومقدونيا، لكن الأديان ترسم خطوطًا ثقافية واضحة — إسلام هنا، أرثوذكسية هناك، وكاثوليكية في موضع ثالث. العملات أيضًا تُعبّر عن الخصوصية: اليورو في الجبل الأسود، الليك في ألبانيا، الدينار في صربيا… وكأن كل عملة تسرد فصلاً من تاريخ اقتصادي مختلف.
المطبخ البلقاني كان مفاجأة جميلة: تنوّع في النكهات، ووحدة في الروح. من البوريك إلى الكباب، ومن السمك المشوي إلى الحلويات الشرقية، تذوّقنا مزيجًا يعكس تداخل الثقافات وتاريخ المائدة المشتركة.
وما لفتني أكثر، أن الموسيقى هنا ليست ترفًا بل جزء من الهوية. الشعوب البلقانية تحب الرقص، تحتفي بالغناء، وتحب الحياة… رغم ما حمله الماضي من وجع.
خرجت من هذه الرحلة بقناعة عميقة:
الحدود لا تصنع الشعوب. ما يصنعهم هو الذاكرة، اللغة، الموسيقى… ورائحة الخبز الساخن في الصباح.
رغم ما يفصل بين هذه الدول من جبال ومرافئ ولهجات، أدركت أن في قلب هذا العالم الصغير دروسًا كبيرة: عن الصبر، عن الانتماء، وعن إمكانية العيش مع الآخر دون أن يفقد أحد هويته.
لقد كانت رحلتنا عبر دول البلقان أكثر من مجرد انتقال بين عواصم ومدن،
كانت — ببساطة — رحلة داخل الإنسان.


السفر دائما متعة وفرصة للاطلاع
شكرا لمروركم
باختصار هذه ليست سفرة بل زيارة إلى التاريخ لمنطقة تتوسط العالم والجيد انها تحتفظ بذكريات الماضي وتهتم به وهذا يعكس المعرفة والرقي.