top of page

عندما كانت المدن تُحاك بِخيوط الذهب: مجلس الإعمار العراقي ودروس التاريخ المنسيّة

في زمنٍ كان العراقُ ينسج فيه أحلامه بخيطٍ من ذهب، وتحديداً في مطلع خمسينيات القرن العشرين، انبثقت إرادةٌ وطنيةٌ فريدة لتحويل الرؤى إلى واقع. لم تكن مجرد خططٍ عابرة، بل مشروعاً حضارياً وُلد من رحم التخطيط العقلاني والرؤية البعيدة، حمل اسم "مجلس الإعمار ". مؤسسةٌ استثنائية، جمعت بين الاستقلالية والصلاحيات الواسعة، واختزنت في صندوقها عائدات النفط كوقودٍ لنهضةٍ شاملة، تلامس البنى التحتية، والتعليم، والصناعة، وحتى تفاصيل الحياة اليومية للإنسان العراقي.

ولم تكُن العقول المحلية وحدها من صاغ هذه الرؤية، بل امتدت الأيدي عبر المحيطات. ففي شباط ١٩٥١، قدمت لجنةٌ من خبراء البنك الدولي، كأنها فرقة مستكشفين لِعالمٍ مجهول، حاملين معهم أدوات الاقتصاد والزراعة والتعليم. أربعةُ أشهرٍ من الغوص في تفاصيل الأرض بين النهرين، أنتجت تقريراً مفصّلاً كخريطة كنز، داعياً لإنشاء هيكلٍ تنمويٍّ موازٍ، يُدار بعيداً عن متاهات السياسة، ويُشرف عليه العقلاء لا الطارئون.


وتركزت أهداف المجلس بالدرجة الأساس على النهوض بالواقع العمراني، الاقتصادي والصناعي في العراق، ورفع مستوى معيشة الشعب من خلال الوظائف وفرص العمل إلى ستوفرها المشاريع المنجزة ، ووضع منهاج تنفيذ للمشاريع المتعددة، مع تقديم تقرير سنوي حول ما تم إعماره والمقترحات للمشاريع الجديدة. وقد تمكن هذا المجلس من إنجاز مشاريع تنموية وخدمية كبيرة لا يزال العراق يحتفظ بقسم كبير منها مثل: ( مشروع سد وبحيرة الثرثار، سدة الرمادي وبحيرة الحبانية، مشروعي سد دوكان و سد دربنديخان، جسور في وبغداد والموصل ومختلف مدن العراق–– معامل ومصانع للأسمنت والسكر والنسيج والنفط والغاز ومحطات للطاقة الكهربائية– إنشاء الطرق البرية وسكك الحديد ،إضافة الى مشاريع الإسكان …الخ) . وقد توزعت تلك المشاريع على جميع محافظات العراق تقريبا. غير أنه ومن المؤسف أن نشاط المجلس ومهامه تراجعت بعد عام 1958م . أخذين بنظر الاعتبار إن الكثير من المشاريع التي أنجزتها ثورة 14 تموز هي من تخطيط مجلس الإعمار ،وسيأتي ذكرها لاحقا .


في عام ١٩٥٤، قرر مجلس الإعمار أن يخطّط ليس للحجر، بل للإنسان. فاستدعى "قسطنطين دوكسيادس"، المهندس اليوناني الذي أعاد بناء مدنٍ مزّقتها الحرب العالمية الثانية، حاملاً فلسفته "الإيكستيكولوجيا" – ذلك الفن الذي يدمج الإنسان مع المكان في تناغمٍ ساحر. لم يكتفِ دوكسيادس بدراسة الخرائط من خلف الطاولات، بل جاب العراق من أقصى الشمال إلى الجنوب، كأنه باحثٌ عن سرٍ قديم. درسَ لغة الرياح، وحكايات التربة، ورقصات الظل تحت شمس الصيف، وهمسات النساء في أزقة بغداد والموصل، اللواتي حوّلنَ الأزقة إلى صالوناتٍ للقاء اليومي.


هنا، لم يكن السكن مجرد جدرانٍ تُبنى، بل ذاكرةٌ تُخلَق. صمّم "ساحات الدردشة" – مساحاتٌ خلف المنازل تفيض بالحياة: مقاعدُ تروي حكايات الأمس، ونوافيرُ تُغنّي لأطفال الغد، وحدائقُ صغيرةٌ تُعلّم الطبيعة أن تكون شريكةً في الحياة. كانت خطة مجلس الإعمار أن يُنشئ ٤٠٠ ألف وحدة سكنية، تحمل في تفاصيلها برودة الصيف دون مكيّفات، ودفء الشتاء دون مدافئ، وكأنها سيمفونيةٌ معماريةٌ صمّمت لتبقى.


لكنّ الأقدار السياسية، التي لا تعرفُ إيقاع السيمفونيات، قطعت الخيطَ الذهبيَّ فجأة. فبعد انقلاب ١٩٥٨، أُغلِق ملف مجلس الإعمار كأنه فصلٌ من روايةٍ لم يُكتب نهايته. تحوّل الحلمُ المدروس إلى توزيع عشوائي لقطع أراضٍ صغيرة، بلا روحٍ أو تخطيط، كأنها رقعٌ على جسدٍ ممزق. سقطت "ساحات الدردشة" تحت أقدام الشعارات الثورية، وغابت حكمة الخبراء خلف صخب الهتافات.


التاريخُ يعيد نفسه، لكن بأزياء مختلفة. فما حدث في بغداد، تكرّر في موسكو وواشنطن؛ حيثُ غاب العقلاء فجفّت بحار، وانهارت مشاريع إسكانٍ تحوّلت إلى كوابيس. مأساة "بريت-آيغو" في أمريكا، وجفاف "بحر آرال" في آسيا الوسطى، شاهدان على أن الطبيعة تُنتقم عندما يُهمل صوت العلم.


اليوم، وبينما تُعاد كتابة تاريخ العراق بأحرفٍ من دمٍ وأمل، تبقى تجربة مجلس الإعمار مرآةً تُظهر أن النهضةَ لا تُصنع بالمال وحده، بل بالحكمة التي تجعل من التخطيط فناً، ومن المدينة بيتاً للذاكرة الجميلة. لقد ضاعت فرصةُ تلك الحقبة الذهبية، لكنّ دروسها باقية: فالأوطان تُبنى عندما يُمسك المهندس باليد التي تحمل القلم، لا التي تحمل السلاح.

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
العمر ان مضى

ها أنا ذا، تجاوزت السبعين سنتين اليوم . لا احتفالَ يُزمِّرُ، ولا أضواءَ تُلمعُ، بل وقفةٌ صامتةٌ كتوقُّفِ المسافرِ في منتصفِ الطريقِ،...

 
 
 

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page