top of page

اصل اسم بغداد بين النقوش البابلية والتفسيرات اللاحقة

مقدمة


تُعد بغداد واحدة من أعرق المدن في التاريخ الإنساني، واسمها ذاته يحمل طبقات متعددة من المعاني والدلالات. ومن المثير أن هذا الاسم لم يولد مع العصر العباسي كما يتصور البعض، بل تعود جذوره إلى آلاف السنين قبل ذلك، في النصوص البابلية المكتوبة بالخط المسماري. إن تتبع أصل اسم بغداد يكشف لنا كيف يتداخل التاريخ مع اللغة، وكيف تحتفظ المدن بهويتها عبر العصور رغم تغيّر الأديان والدول والإمبراطوريات.

1. الجذور البابلية

أقدم ذكر لاسم بغداد ورد في حجر كودورو البابلي الشهير المعروف بـ صخرة ميشو (المحفوظة في متحف اللوفر). النقش المسماري الذي يعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد (زمن الملك الكشي نازي ماروتش) يذكر اسم بَغدادو (Bagdadu).

المعنى في الأكدية – اللغة البابلية – هو: “عطية الإله” أو “هبة الإله”.

هذا الاكتشاف يُثبت أن اسم بغداد مستخدم قبل ألفي عام من تأسيس المدينة العباسية، وهو ما يمنح الاسم بعدًا تاريخيًا عميقًا.

2. التفسير الفارسي

خلال العصور اللاحقة، خصوصًا في الحقبة الساسانية وما بعدها، ظهر تفسير فارسي للاسم:

• باغ = بستان.

• داد = عطية.

ليصبح معنى بغداد: “البستان الموهوب”.

هذا التفسير شاع في المصادر الإسلامية، خاصة مع النفوذ الثقافي الفارسي في العراق، لكنه جاء لاحقًا مقارنة بالذكر البابلي.

3. التفسيرات العربية الشعبية

قدّم بعض المؤرخين العرب في القرون الوسطى تفسيرات شعبية أو أسطورية لاسم بغداد، مثل نسبه إلى صنم يُدعى “بغ”، أو اعتباره تركيبًا يدل على البغاء والعطاء، وهي تفسيرات ضعيفة لا تستند إلى نصوص أثرية.

هذه المحاولات تكشف عن رغبة المؤرخين في إعطاء معنى مألوف للاسم، لكنها لا ترقى إلى مستوى التوثيق.

4. العصر العباسي وتبنّي الاسم

عندما أسس الخليفة أبو جعفر المنصور مدينته المدورة عام 762م، كان اسم بغداد متداولًا في المنطقة مسبقًا. المنصور منح المدينة اسمًا رسميًا هو مدينة السلام، لكن اسم بغداد ظل هو الأكثر شيوعًا بين الناس، حتى غلب على التسمية الرسمية وأصبح رمزًا خالدًا للعاصمة.

5. الدراسات الحديثة

أكد المستشرقون والباحثون الغربيون في القرن التاسع عشر (مثل راولنسون وبينك) أن أصل اسم بغداد بابلي أكدي، بالاعتماد على النصوص المسمارية.

هذا الرأي أصبح اليوم الأكثر قبولًا في الأوساط الأكاديمية، حيث يتفق الباحثون أن معنى بغداد الأصيل هو: “عطية الإله”.


خاتمة

إن اسم بغداد ليس مجرد لفظ جغرافي، بل شهادة حية على تواصل التاريخ عبر العصور. فمن “بَغدادو” البابلية إلى “بغداد” العباسية، بقي الاسم حاضرًا ليذكّرنا بأن المدن الكبرى تحمل في طياتها ذاكرة أقدم من حاضرها.

وإذا كانت بغداد قد عُرفت في العصر العباسي بـ مدينة السلام، فإن اسمها الأصيل – “عطية الإله” – يظل شاهدًا على عراقتها ورمزًا لهويتها المتجددة.


نشر على مدونة الدكتور علاء التميمي

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
الذاكرة والاسم

✦ الذاكرة والاسم لا ينسى الإنسان مكانه الأول، حتى لو تركه مجبراً أو حمل معه جراحه وآلامه. في قلب الذاكرة يبقى ذلك المكان حيّاً، ليس...

 
 
 

1 تعليق واحد

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
Ahkam
16 سبتمبر
تم التقييم بـ 5 من أصل 5 نجوم.

احسنت د علاء حيث سلط الضوء وشرحت بوضوح تاريخ اسم بغداد ، فقد كان خطأ نشرته بعض الخارجين ان اسم بغداد اصله فارسي. شكرا جزيلا

إعجاب
bottom of page