top of page

بغداد: مدينة السراب بين العمارة الموعودة والتخطيط الحضري المؤجَّل


في منتصف القرن العشرين، تحوّلت بغداد إلى مختبر عالمي للحداثة المعمارية والتخطيط الحضري. ما بين 1952 و1982، استُدعيت أسماء كبرى مثل فرانك لويد رايت، لو كوربوزييه، والتر غروبيوس، جيو بونتي، وألفار ألتو، لتقديم رؤى طموحة لمدينة كانت تطمح أن تكون عاصمة الشرق الأوسط الثقافية والاقتصادية. لكن هذه الطموحات سرعان ما تحوّلت إلى “سراب” بفعل الاضطراب السياسي، فلم يبقَ من تلك الأحلام سوى قلة من المباني التي تناثرت بين أمواج من الصراع.



التصاميم الكبرى: من الحداثة إلى الطوباويج


فرانك لويد رايت: “بغداد الكبرى”

عام 1957، قدّم رايت خطته الطوباوية تحت عنوان Plan for Greater Baghdad. تخيّل جزيرة وسط دجلة تحمل اسم إيدينا، أشبه بحديقة جنّة معاصرة، تضم:

  • دار أوبرا ضخمة تتسع لآلاف المتفرجين.

  • مكتبة ومتحفًا ودارًا للعلوم.

  • جامعة حديثة تعكس انفتاح العراق على المعرفة.

  • تمثالًا أسطورياً يمزج بين رموز “علاء الدين” و”التنين”، كعلامة على الحلم الشرقي في قراءة غربية.


هذا المشروع لم يتجاوز المخططات، لكنه يكشف كيف نظر الغرب إلى بغداد باعتبارها “مسرحًا” يمكن أن يجسّد فيه الطموح العمراني العالمي.

لو كوربوزييه: المجمع الرياضي

قدّم لو كوربوزييه تصورًا لمجمع رياضي متكامل ضمن خطة لاستضافة الأولمبياد. ضمّ ملاعب داخلية وخارجية وصالات متعددة الوظائف. لم ينفّذ المشروع كاملاً، لكن قاعة الألعاب الرياضية (افتُتحت 1980) بقيت شاهداً وحيداً على تلك الرؤية الحداثيّة


والتر غروبيوس وآخرون: التخطيط الأكاديمي والثقافي


  • غروبيوس، أحد روّاد “الباوهاوس”، رسم مخططات لمدينة جامعية حديثة.

  • جيو بونتي وألفار ألتو وغيرهم صمّموا متاحفًا ومراكز ثقافية ومبانٍ إدارية.


    لكن تلك المشاريع بقيت حبيسة الأدراج، تتأرجح بين الطموح الدولي والواقع السياسي العراقي المتقلّب.



التخطيط الحضري: الرؤية والقيود


هذه المشاريع لم تكن معزولة عن محاولات لوضع مخطط عمراني شامل لبغداد. فقد عمل خبراء أجانب مثل كونستنتين دوكسياديس على وضع خطط هيكلية للمدينة، تضم تقسيمات للأحياء، شوارع واسعة، ومناطق خضراء. كان الهدف تحويل بغداد إلى مدينة عصرية متوازنة، تربط بين التراث العربي الإسلامي وضرورات الحياة الحديثة.

لكن تلك الخطط اصطدمت بعقبتين أساسيتين:

التغيّر السياسي المتكرر (من الملكية إلى الجمهوريات والانقلابات).

غياب استمرارية مؤسسية تجعل التخطيط العمراني جزءًا من سياسة وطنية طويلة الأمد.

بالمقارنة، فإن مدنًا مثل الرياض استفادت من الاستقرار السياسي والثروة النفطية لتطبيق مخططات دوكسياديس وأقرانه، بينما بقيت بغداد تعيش بين “التصميم على الورق” و”الارتجال على الأرض”.


ما نُفّذ: الرمزية أكثر من الحداثو

بينما تعثرت مشاريع الثقافة والعلم، تقدمت مشاريع الرمزية الوطنية، خاصة بعد حرب العراق–إيران:


  • نصب الجندي المجهول (1982): تصميم خالد الرحّال ومارسيلو دوليفو، كتعبير عن التضحية.

  • نصب الشهيد (1983): قبة زرقاء تنشطر لتحتضن الشعلة الأبدية.

  • فندق بابل (1982): تجسيد للزقورة البابلية بروح حديثة.


هذه المشاريع عززت حضور “العراق المقاتل” أكثر من “العراق المثقف”، وهو ما يعكس تحوّل الدولة من مشروع حداثي مدني إلى مشروع تعبوي عسكري.

أما المعماري العراقي رفعت الجادرجي، فقد كان علامة فارقة في نقل الحداثة إلى السياق المحلي، عبر مبانٍ مثل مبنى العبّود (1955) ومشاريع حكومية عديدة، ليحفر اسمه كأبرز من حاول المزج بين الطابع المحلي والحداثة الدولية


مقارنة نقدية مع العواصم الأخرى


  • القاهرة: حاولت عبر “مدينة نصر” ومشاريع عبد الناصر أن تترجم الحداثة العمرانية، لكنها غُلبت على أمرها أمام النمو السكاني العشوائي.

  • الرياض: اعتمدت على المخططات الدولية ونفّذتها تدريجيًا، فبرزت أحياء منظمة وبنية تحتية متسقة، رغم الطابع المحافظ ثقافيًا.

  • الدوحة وأبوظبي (لاحقًا): سخّرت الثروة النفطية لاستقطاب أسماء معمارية عالمية، فنجحت في تنفيذ ما عجزت بغداد عن تحقيقه في الخمسينيات.


هذا يعكس معادلة حاسمة: الحداثة العمرانية تحتاج إلى استقرار سياسي ورؤية وطنية مستدامة، لا إلى وعود معمارية فقط.

خاتمة تأملية

أقف اليوم أمام تلك المخططات التي لم تُنفّذ، فأشعر أنها ليست مجرد أوراق مهملة في أرشيف معماري، بل شظايا من أحلام مدينة وُلدت لتكون عظيمة ثم أُعطبت في منتصف الطريق. كأن بغداد، في نصف قرن مضى، كانت تُمدّ يدها إلى المستقبل، لكن يدًا أخرى كانت تشدّها إلى صراعات الحاضر.


أفكّر أحيانًا: لو تحققت جزيرة إيدينا التي رسمها رايت، أو لو قامت الجامعة الحديثة التي حلم بها غروبيوس، هل كان شباب بغداد سيكبرون وهم يرون مدينتهم تضاهي باريس أو طوكيو في فضاءاتها الثقافية والعلمية؟


لكن بغداد، بطبيعتها، مدينة لا تموت. هي التي التهمت الحروب وأعادت صياغة نفسها مرات لا تُحصى. وربما تكون تلك المشاريع المؤجّلة، بكل ما فيها من سراب، قد منحتها شيئًا أثمن: القدرة على أن تبقى فضاءً مفتوحًا للخيال، مدينةً تُعلّمنا أن العمران ليس جدرانًا فقط، بل وعدٌ مؤجَّل ينتظر لحظة صدق ليتحوّل إلى واقع.

ومن بين هذا الركام، أجد نفسي مؤمنًا أن بغداد ستظل تلهم العالم، كما ألهمت رايت وكوربوزييه، وأن ساعة البناء الحقيقي ستأتي يومًا، عندما تتصالح المدينة مع ذاتها وتعيد اكتشاف معنى اسمها القديم: مدينة السلام.




المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
سلام النفس في حاضرها

🌿 خاطرة الجمعة لا تحملوا الماضي فوق أكتافكم، ولا تسبقوا بأفكاركم ما لم يأتِ بعد. الماضي—بأخطائه وندمه—لا يعود، فلا تجعلوه قيدًا يثقل...

 
 
 
بغداد دار السلام

.يسعدني أن أعلن أن كتابي الجديد بعنوان “Baghdad Dar Al-Salam – A City Once Called the Abode of Peace” سيصدر قريبًا. في هذا العمل، أروي...

 
 
 

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page