top of page

البديهيات والمصلحة عندما تهزم الحقيقة امام المنفعة


د علاء التميمي

تشرين الاول ٢٠٢٥


لو تعارضت البديهيات الهندسية مع مصالح الناس لأنكروها. فالناس، حين يُذكرون في المطلق، يذوب فيهم النوع داخل الكثرة، وتغيب معايير العقل في ضجيج المصلحة.

البديهيات لا تُكذّبها التجربة، ولا يخطئها الحدس، ومع ذلك قد تنحني أمام إرادة المنفعة، لأن المصلحة تملك سلطةً خفية على توجيه القبول والرفض.


إن وضع البديهيات العلمية في مواجهة المصلحة ليس تقليلًا من شأن الأولى، بل تأكيدٌ على سطوة الثانية، وعلى الحاجة إلى حكمةٍ ترى الإنسان في معاناته لا في معادلاته. فالحياة، بقدر ما تُبنى على العقل، تُدار أيضًا بعواطف الجموع ومصالحهم، وهي كثيرًا ما ترفض الحقيقة لأنها لا تخدمها.


في التاريخ الحديث، لا تخلو تجربة سياسية أو فكرية من مثالٍ يُظهر كيف يمكن لفكرةٍ وُلدت نبيلة أن تتحوّل إلى قيدٍ على أصحابها حين تتكلّس وتفقد قدرتها على التكيّف. حينئذٍ تنتصر المصلحة على البداهة، ويُستبدل الإيمان بالعقل إلى ولاءٍ للأفكار الموروثة التي فقدت صلاحيتها. هذا هو مكر التاريخ الذي يجعل الإنسان يستمر في عبادة فكرةٍ لم تعد نافعة لا له ولا للزمن الجديد.


المصلحة تتخذ وجوهاً كثيرة، وغالبها يعارض البداهة، سواء أكانت هندسية أم أخلاقية. فهي لا تظهر إلا حين تفقد الفكرة قدرتها على النمو، ويعلو صوت العقائدية المبتذلة، وتصبح السياسة مجالًا للحمقى الذين يحاربون كل ما يحرر العقل ويتيح للحرية أن تتنفس.


ومع ذلك، يظلّ الأمل قائمًا في الفكرة التي توازن بين العقل والمصلحة، بين البداهة والممارسة، بين الحقيقة ومتطلبات الواقع. فالديمقراطية في معناها الأعمق ليست سوى محاولة دائمة للحدّ من استبداد فكرةٍ واحدة، ومن رعونة القادة، ومن غباء التعصب. إنها تجعل مصلحة المجتمع نفسه — لا مصالح فئاته — بداهةً عليا، وتذكّرنا بأن لا فكرة تستحق أن تحكم الحياة وحدها، ولا قائد يملك الحقيقة كلها.


نشرت على مدونة الدكتور علاء التميمي

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
الذاكرة والاسم

✦ الذاكرة والاسم لا ينسى الإنسان مكانه الأول، حتى لو تركه مجبراً أو حمل معه جراحه وآلامه. في قلب الذاكرة يبقى ذلك المكان حيّاً، ليس...

 
 
 
bottom of page