الحياة بين المباني : ذاكرة المكان
- Alaa Tamimi
- 28 أبريل
- 2 دقيقة قراءة
تاريخ التحديث: 30 أبريل

في زحمة المدن وارتفاع مبانيها، يهمس المعماري الدنماركي يان غيل (Jan Gehl) بحقيقة غائبة: "روح المدينة لا تكمن في حجارة مبانيها، بل في الفراغات التي تتنفس بينها". في كتابه الشهير "الحياة بين المباني: استخدام الفضاء العام" (Life Between Buildings: Using Public Space)، يقلب غيل المعايير رأسًا على عقب، مؤكدًا أن جمال العمران ليس في ضخامة الأبراج، بل في دفء الساحات، وحيوية الأرصفة، وثراء اللقاءات العابرة التي تصنع ذاكرة المكان.
لنغوص مع أفكار غيل في دهاليز مدينتين عربيتين عريقتين: بغداد بأسواقها التي كانت تغني بالحكايات، والقاهرة التي تختزل في شوارعها تاريخًا حيًا يتنفس.
كيف تبدو الحياة بين مبانيهما اليوم؟ وهل ما زال الفضاء العام قادرًا على أن يكون مسرحًا للاجتماع الإنساني؟
من نبض الحياة إلى صمت الانكماش كانت بغداد لوحةً من الألوان والصخب مقاهٍ تفيض بالنقاش، أسواقٌ تتشابك فيها الأيدي، وساحاتٌ تروي قصص الأمس. لكن الحرب والعنف حوّلا هذه الفسحة إلى فضاءٍ مشظّىً بالحواجز الخرسانية والخوف خلال فترة مهمة من تاريخ بغداد بعد الاحتلال عام ٢٠٢٣ . ثم لاحقا اختفت المساحات العامة لصالح زحام السيارات والعشوائيات. المدينة التي كانت تُغري بالمشي والتأمل، صارت تُنذر بالعجلة والانكفاء.
أما القاهرة، فتحكي قصةً أخرى من التناقض مدينةٌ تاريخيةٌ بقلب نابض، تُحاصرها أحياءٌ جديدةٌ بلا روح. الأرصفة الضيقة تدفع المشاة إلى التلاصق كالقطيع، والحدائق العامة إما مُهملة أو محاطة بأسوار. حتى المقاهي الشعبية، التي كانت ملتقى الأحلام الصغيرة، تتراجع أمام صعود المولات المغلقة، حيث يتحول الاجتماع إلى استهلاك، والفضاء العام إلى سلعة خاصة.
يقسّم يان غيل في كتابه الحياة بين المباني" (Life Between Buildings) حياة المدينة إلى ثلاثة أنماط:
- الضروري كالذهاب للعمل أو الشراء.
- الاختياري مثل الجلوس في مقهى لمجرد المتعة.
- الاجتماعي تلك اللقاءات العفوية التي تصنع مجتمعًا.
في بغداد والقاهرة، لم يتبقَّ سوى النشاط الضروري بينما تراجعت الأنشطة التي تُحرّك المشاعر وتُنمّي الانتماء. لماذا؟ لأن التصميم العمراني لم يعد يُرحّب بالإنسان، بل يُجبره على الاختباء خلف زجاج سيارته أو جدران بيته.
الفضاء العام هو مرآة المجتمع فماذا نرى في بغداد والقاهرة؟
يطرح غيل في كتابه مدن من أجل الناس" (Cities for People) حلاً بسيطًا
- أرصفة عريضة تسمح بالتجول بلا خوف.
- مقاعد تحت ظلال الأشجار، حيث يمكن للغريب أن يلتقي بجاره.
- مساحات خضراء صغيرة بين المباني.
هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تعيد للمدينة إنسانيتها ربما تكفي مقاهٍ بسيطة على الأرصفة، أو ممرات آمنة للمشاة، لتعود الحياة إلى الشوارع.
الدرس الذي يقدمه يان غيل في كتبه "الحياة بين المباني" و"مدن من أجل الناس" واضح: المدينة الناجحة ليست مجموعة مباني، بل هي ذكرياتٌ تُصنع يوميًا في زواياها. بغداد والقاهرة تمتلكان تاريخًا من العمران الحيوي، لكنه يحتاج إلى إعادة اكتشاف. ليس المطلوب ناطحات سحاب جديدة، بل إحياء تلك المساحات حيث يمكن لطفل أن يلعب، أو لجارين أن يتشاركا كوب شاي، أو لفكرة أن تولد من لقاء عابر.
فهل نستمع لصوت غيل، أم سنستمر في بناء مدنٍ جمادها أكثر من أحيائها؟
ما شاء الله … دايماً مبدع ورفعة راس دكتور علاء التميمي