top of page

الذاكرة الحضرية: بين التماثيل الخالدة والهويات الهشة



في لحظةٍ من صخب الحياة على كورنيش باتومي الساحر على البحر الأسود ، حيث يمتزج همس البحر بضجيج المدينة، وقفتُ مبهوراً أمام تمثال "إيليا تشافتشافادزه". ذلك الرمز الجورجي الذي حوّل قلمه إلى جسرٍ بين الماضي والمستقبل، فصار اسمه محفوراً في ذاكرة المدينة كما هو محفورٌ على قاعدة الغرانيت. هنا، حيث تتنفس المدن تاريخها، تساءلتُ: لماذا تتحول مدننا إلى ضحايا النسيان بينما تصنع غيرها من التماثيل سفراءَ خالدين للهوية؟


في المدن التي تعرف قيمة تراثها، لا يُنصب التمثال للزينة، بل ليصبح شاهداً حياً على حوار الأجيال. فـ"تشافتشافادزه" في جورجيا، مثل "شكسبير" في لندن و"طاغور" في الهند، ليسوا مجرد أسماء في الكتب، بل جزءٌ من النبض اليومي للمدينة. بينما نجد في مدننا الأسماء تتبدل بتبدل الحاكم :


- جسر الملك فيصل الثاني، تلك التحفة المعمارية، يبحث عن هويته بين أسماء "14 تموز" و"الجمهورية".

- تمثال المنصور، مؤسس بغداد، الذي يتعرض للتشويه كلما تغيرت البوصلة السياسية.

- اسماء مدن وأحياء التي تتبدل هويتها كجلدٍ ينسلخ مع كل نظام.

وتماثيل تزال في لحظات غضب او انعدام الوعي بينما لا تزال تماثيل قياصرة روسيا وملوك فرنسا جاثمة تزين شوارع موسكو وباريس بالرغم من الثورة البلشفية والفرنسية التي ازالت هذه الأنظمة.


الأمم العظيمة تبني هويتها على التنوع لا المحو. فلماذا لا نرى:

- تمثال الجاحظ في شارع المتنبي، حيث كان يصوغ أفكاره التي غيرت العالم؟

- اسم لمستشفى السيدة ماري شمعون، تكريماً لأول طبيبة عراقية كسرت قيود التقاليد؟

- ساحة جواد سليم، حيث يمكن للفن أن يحاور نصب الحرية؟

- حديقة ليلى قاسم في قلب السليمانية، تروي قصة الشهادة الكردية؟

- شارع الخوارزمي في الرصافة،

- جسر الرازي في الكرخ،

- ساحة الوردي في الكاظمية... وآخرين


-كذلك أبطالٌ نسيهم الوطن ولم ينسهم التاريخ، ففي وسط زحام النسيان، يقف أبطال ثورة العشرين شامخين لابد من تكريمهم أمثال :


السيد محمد الصدر (1882-1956) قائد ديني وسياسي بارز في ثورة العشرين و أحد مؤسسي **الحكومة العراقية المؤقتة** بعد الثورة

حيث قاد التحركات السياسية والدينية ضد البريطانيين

عبد الوهاب النعيمي الذي حوّل معركة الرارنجية إلى ملحمة وطنية،

حسين أبو غضيب المدافع عن النجف الذي اختار الشهادة على الاستسلام،

سليمان الفيصل الذي سقى تراب كربلاء بدمائه،

عبد الكريم الجريان الذي حوّل الديوانية إلى معقل للمقاومة

الشيخ ضاري المحمود (1858-1927)زعيم عشيرة زوبع وأشهر مواقفه عندما قتل الكولونيل **جيرالد ليجمن ممثل الحاكم البريطاني


اقترح إنشاء متحف التماثيل الوطني ليضم وجوه العراق خلال تاريخه الطويل، من حمورابي إلى رابعة العدوية إلى نزيهة الدليمي.

فالتمثال ليس حجراً، بل عهدٌ بين الماضي والمستقبل. حين تزيل أمة تماثيلها، فهي تمحو تاريخها. فلنصنع من مدننا سجلاً حياً يروي قصة كل من ساهم في بناء هذه الأرض: شعراءً، وعلماء، وثواراً، ومفكرين، ورجالاً ونساءً من كل المكونات.


إن الشعوب التي تحترم ماضيها، وحدها تستحق مستقبلاً يليق بتضحيات الأجداد.



ree

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
الذاكرة والاسم

✦ الذاكرة والاسم لا ينسى الإنسان مكانه الأول، حتى لو تركه مجبراً أو حمل معه جراحه وآلامه. في قلب الذاكرة يبقى ذلك المكان حيّاً، ليس...

 
 
 

2 تعليقان

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
Dr Alaa Al Tamimi
Dr Alaa Al Tamimi
30 يوليو

نعم صحيح تماما فالتمثال يتحدث لمن يريد ان يطلع على الحقيقة

شاكرا مروركم

مودتي

إعجاب

Ahkam Altaee
04 يوليو
تم التقييم بـ 4 من أصل 5 نجوم.

الزيارات ومشاهدة الطبيعة وتمثال رجال لهم بصمة كبيرة بالتاريخ تجعلك تفهم كل امر بطريقة افضل ، وانت امام التمثال الفكر يأخذك للتاريخ وهنا يبدأالتقيم

إعجاب
bottom of page