top of page

بغداد: ذاكرة مدينة

تاريخ التحديث: 18 مايو

بغداد – نشيد الخلود من عباءة التاريخ

في قلب الجغرافيا، حيث ترقد الأساطير تحت تراب دجلة وتهمس الأزقة القديمة بأسرار العصور، نشأت مدينة ليست كغيرها. لم تظهر بغداد من العدم، بل بُنيت على أنقاض حضارات سابقة، وكأنها النسخة المصقولة من ذاكرة الرافدين.

قبل أن يفكر أبو جعفر المنصور في تأسيسها، كانت الأرض تنبض بذكريات المدائن، عاصمة الساسانيين، وزقورة عقرقوف التي تطل على السماء منذ آلاف السنين، وإيوان كسرى الذي لا يزال شاهداً على زمن يتشبث بالخلود.

بغداد... مدينة من نور وتخطيط

عندما قرر الخليفة أبو جعفر المنصور إنشاء عاصمته الجديدة، اختار موقعًا مرتفعًا على الضفة الغربية لنهر دجلة. لم يكن هذا القرار عشوائيًا؛ فالمنطقة كانت محاطة بقرى زراعية خصبة تُروى من جداول تتفرع من نهر الفرات ونهر دُجيل الذي يأخذ مياهه من دجلة شمالًا. كانت هذه الأراضي تنتج غلالًا وفيرة وتحيط بها المزارع من كل جانب، حتى الجهة الشرقية من دجلة كانت مزدهرة بمياه الأنهار والترع التي تروي أراضيها.

ree

هكذا وُلدت بغداد، مدينة ليست كباقي المدن. لم تكن مجرد عاصمة جديدة، بل مشروع حضاري متكامل. أرادها المنصور أن تكون مركزًا للدولة الإسلامية، وعنوانًا للقوة والتنظيم والرقي.

ورثت بغداد منذ نشأتها روح التاريخ، وشهدت مراحل عمرانية متعددة، لكل منها بصمتها. ومنذ أن وضع المنصور أسسها، حملت المدينة ملامح حضارية وإنسانية نادرة؛ فهي لم تكن فقط دارًا للخلافة، بل مهدًا للعلم، ومركزًا للترجمة، وملتقى للفكر والحياة.

في ذروة مجدها، وخاصة في عهد الخليفة هارون الرشيد، كانت بغداد تُذكر في حكايات "ألف ليلة وليلة"، وتُعرف بعلمائها وفلاسفتها وشعرائها، وبأسواقها ودفء مجالسها. لم تكن المدينة فقط عاصمة سياسية، بل مركز إشعاع للعالم الإسلامي كله.

وما ميّز بغداد منذ نشأتها هو تصميمها الاستثنائي. فقد اختار المنصور أن تكون مدينته مدوّرة الشكل، وهي فكرة فريدة نادرًا ما نجد لها نظيرًا في تاريخ بناء المدن. ورغم أن بعض المدن القديمة في وادي الرافدين بُنيت بدوائر دفاعية كالحضر والمدائن، فإن ما فعله المنصور هنا كان مزيجًا بين الجمال والتخطيط المحكم.

رُسم شكل المدينة بدايةً بخطوط من الرماد، ثم أُشعلت كرات من القطن المبللة بالنفط على امتداد السور، في طقس رمزي يعلن بدء البناء. بعد ذلك، بدأ المهندسون والعمال بحفر الأساسات، واستخدموا في البناء الطوب المشوي في الشمس أو النار، إذ لم تكن الحجارة متوفرة في تلك المنطقة.

بقيادة المنصور ومجموعة من المهندسين، رُسمت المدينة كدوائر متداخلة، تبدأ من الخندق الدفاعي، ثم السورين العظيمين، وصولًا إلى الرحبة الكبرى في قلب المدينة. وفي مركزها شُيّد قصر ضخم مربع الشكل، طول ضلعه 240 مترًا، يضم إيوانًا فخمًا تعلوه قبة خضراء شاهقة تُرى من بعيد.

كان ذلك القصر مقرًّا للخلافة، ومركزًا للإدارة، وزُيّن من الداخل بأخشاب نادرة ونقوش ذهبية خلّابة، حتى عُرف بـ"قصر الذهب".

ولم يُغفل المنصور أبواب المدينة، فجعل لها أربعة أبواب كبرى، سُميت بحسب الجهات التي تُفضي إليها: باب الشام، باب الكوفة، باب البصرة، وباب خراسان. وفوق كل باب قبة، وكل مدخل محصن ببوابة ضخمة من الحديد، تُغلق بإحكام.

الشوارع داخل المدينة انطلقت مستقيمة من كل باب نحو مركزها، وكأنها شرايين تنبض في قلب بغداد، متصلة بجسدها الدائري بتناغم رائع بين الفكرة والتنفيذ.


عندما خطّ المنصور مدينته عام 145هـ (762م)، لم يكن يؤسس لعاصمة عابرة، بل كان يخلق عالماً. عالمًا مدوّرًا، له مركز كنقطة البداية، ودوائر كأنها موجات حجر سقط في بحيرة ساكنة.

مدينة لم تُبْنَ بالحجارة فقط، بل بالخيال. بالتصميم المرهف الذي جمع بين الحصافة العسكرية وجماليات الهندسة. قصر في قلبها، وقبة خضراء تعلوه كنجمةٍ دائمة، وأسواق تتشابك كمقطوعة موسيقية بين باب الشام وباب البصرة، بين الكوفة وخراسان.

لكن بغداد، كما الأنثى المهيبة، لم تكتفِ بما مُنِحَتْ. فقد امتدّت، وتوسّعت، وولّدت الرصافة. هناك، على الضفة الأخرى من دجلة، أقام المهدي مدينته الثانية، كأن بغداد أخذت تحدّق في نفسها من الجهة المقابلة، وتبتسم لصورتها في النهر.

الكرخ أيضًا، تلك الضاحية التي كانت يومًا هامشًا، صارت قلبًا آخر للمدينة. نُقلت إليها الأسواق، وتسرّبت الحياة في أزقتها، حتى صارت مركزًا تجاريًا يعجّ بالعلماء والتجار والفقهاء.

وفي عهد الرشيد، ارتفعت بغداد كقصيدة؛ مزهوة بحكايات ألف ليلة وليلة، تضج بعطر المجالس، ودفء المدونات، وأصداء الشعراء. كانت لا تنام، إلا لتصحو أجمل.

لكن المجد هش. فحين غاب الرشيد، وقعت المدينة في فخّ الصراع بين ابنيه، الأمين والمأمون. حصار المدينة المدورة، وضربها بالمنجنيق، لم يكن حربًا فقط، بل إعلانًا عن بداية الشروخ في درع بغداد الذهبي.

ومع المأمون، انتقل نبض المدينة إلى الرصافة، حيث أصبحت الخلافة هناك، ومعها المجالس، والفقه، والجدل، والكتب، وبيت الحكمة. كانت بغداد كلها تكتب، وتترجم، وتناقش... مدينة لا تمشي على الأرض، بل تحلق على رفوف مكتباتها.


لكن ذلك الضوء الكبير لم يصمد أمام العتمة المغولية. حين اجتاح هولاكو المدينة عام 1258، كان دجلة يفيض، لا بالماء فقط، بل بالحبر والدم. الأسود والأحمر تلاحقا في موج واحد، لتُمحى مكتبات، وتُقتل عقول، وتتحول بغداد إلى أنين لا يسمعه إلا من عرفها من قبل.

ولسبعة قرون بعدها، بقيت بغداد تنام وتصحو تحت وطأة الغزاة: تيمورلنك، الفرس، العثمانيون... لكن لا أحد منهم استطاع أن يطفئ جذوتها تمامًا. كانت مدينة تنكمش، لكنها لا تموت. تتراجع، لكنها لا تُمحى.


وفي نهايات العهد العثماني، جاءت أقلام الرحالة الأوروبيين لتوثّق ما تبقى. نيبور، فليكس جونس، وغيرهم، رسموا خارطتها، وعدّوا محلاتها، وسجّلوا أزقتها. رأوها مُسقفة الأسواق، ضيقة الشوارع، لكنها لا تزال تنبض بروحٍ خفية، كشعلة لا تنطفئ مهما تكدّس عليها الغبار.

ثم جاء الوالي مدحت باشا، ونفخ في المدينة بعضًا من هواء الإصلاح. أنشأ بلدية، وجريدة، ومدارس، وترامواي. لكنه أيضًا، مزّق ثوبها القديم حين أمر بهدم أجزاء من سورها ، وكأن المدينة بدأت تخلع جلدها بيدٍ، وتتشبث به بالأخرى.


حتى جاء عام 1917. حين انفجرت بغداد من الداخل، ببارودٍ عثماني نسف "باب الطلسم" — آخر ما تبقى من أبواب الذاكرة العباسية. لم يكن مجرد باب. كان تعويذة معمارية، نقش عليها رجلٌ وتنين، وتدثرت بظلها حكايات الأشقياء والشعراء.

وكانت تلك هي اللحظة التي دخل فيها الجنرال مود بغداد، حاملاً بيد علمًا، وبالأخرى صفحة جديدة من التاريخ... فصلًا يُكتب لا بالذهب، بل بالاحتلال.


*هذا النص هو جزء من سلسلة مقالات متتابعة أقدمها بشكل دوري، وهي مستوحاة من فصول كتابي المعنون «بغداد: ذاكرة مدينة»، الذي يستعرض تحولات العاصمة العراقية منذ نشأتها العباسية وصولًا إلى فترة التحولات الكبرى في القرن العشرين.

أهدف من خلال هذه السلسلة إلى إحياء معالمها التي طواها النسيان، وإعادة تشكيل صورتها النابضة بالحياة كما وثقتها النصوص وحفظتها الذاكرة.

من يرغب في معرفة المزيد من التفاصيل أو الحصول على نسخة إلكترونية من الكتاب الكامل، يُسعدني التواصل معه مباشرة لإرسالها بكل تقدير.

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
بغداد دار السلام

.يسعدني أن أعلن أن كتابي الجديد بعنوان “Baghdad Dar Al-Salam – A City Once Called the Abode of Peace” سيصدر قريبًا. في هذا العمل، أروي...

 
 
 

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page