top of page

تبليسي حيث يلتقي الماضي بالحاضر


وصلت مطار تبليسي مع صديق عمري فريد الذي التقيته في اسطنبول حيث قدم من بغداد للقائنا السنوي كل صيف . وصلنا قُبيل الفجر على متن الخطوط التركيّة. بدت صالة الوصول شبه خالية كأنّ طائرتنا أولُ من يوقظ المدينة من سباتها الصيفي. خارج المطار اخترقنا طرقًا فسيحة ثم غصنا في المدينة القديمة، حيث تنحسر الشوارع وتتشبّث البيوت الخشبيّة بشرفاتها المعلّقة كعناقيد عنبٍ فوق الدروب. هناك التقيت صديقي شاكر القادم من كندا، ومعه انطلقنا حيث اتّسع الفجر لنا جميعًا.


إيقاعٌ تاريخي تحت قلاع ناريكالا


تحت ظلال قلعة ناريكالا، الحارسة الصامتة منذ القرن الرابع الميلادي، سرنا بين بيوتٍ ملوّنة تعكس تمازجًا فارسيًّا وعثمانيًّا وأوروبيًّا. في أبانوتوباني علت رائحة الكبريت الدافئ من الحمّامات التي منحَتْ تبليسي اسمها («تبليس» بالجورجيّة = الدفء). وعلى جسر السلام الزجاجيّ، بدت المدينة وكأنّها تجرّب مرآةً حديثة تُقابل وجهها العتيق.


المسجد الوحيد في تبليسي… تناغم الأرواح


وفي قلب الأحياء المرصوفة، ولجنا المسجد الوحيد في تبليسي الذي يرتاده المسلمين من السنة والشيعة سوية في وحدة إسلامية مبهجة والمسجد على تواضع حجمه، يفرض حضوره الروحي داخل فسيفساء المدينة؛ مئذنته تعانق أجراس الكنائس القريبة، والأزقة الضيقة من حوله تنضح بحكايات تعايشٍ عمره قرون. من هذا الموقع تبدأ رحلة فهمٍ أعمق لهويّة تبليسي المتسامحة، حيث يلتقي الأذان ورنين الأجراس في نغمٍ لا تجيده إلا المدن الحكيمة.


شارع روستافيلي… أوبرا من الحجر


في الحافلة السياحيّة مررنا بـ شارع روستافيلي، صفٌّ أنيق من المباني النيو-كلاسيكيّة: دار الأوبرا، البرلمان القديم، مسرح روستافيلي. الجورجيّون يتجوّلون بهدوء ومعهم فنجان قهوة كورتشي يختصر دفءَ القوقاز.


كاتدرائية الثالوث المقدّس… عودةُ الهوية


يحجب نهر متكفاري ضجيج المدينة، لكنّ كاتدرائيّة Sameba ذات القباب الذهبيّة تلمع على ربوة شاهقة، رُمزًا لنهضةٍ روحيّة بعد الاستقلال.


فسيفساء الناس والمذاقات وليل الموسيقى


في حيّ سولولاكي، ذقنا طعم جورجيا الحقيقي. تناولنا طبق الخينكالي، وهو رزمات عجين محشوّة باللحم والتوابل تُغلى وتُؤكل باليد، يبدأ أكلها بشرب مرقتها الساخنة، ثم الاستمتاع بحشوتها. وجربنا أيضًا الخاتشابوري، الخبز التقليدي المحشوّ بجبنٍ محليّ، وقد يُضاف إليه صفار البيض في نسخة “أجارولي” المميزة على شكل قارب


ّ الجورجيين… حين تنظر تبليسي من علٍ


بعد الظهر، صعدنا بالتلفريك إلى إحدى أعلى نقاط المدينة، حيث الهواء أقل ضجيجًا والمدينة تبدو كلوحة زيتية من بعيد. هناك، وقفت شامخة أمّ الجورجيين (Kartlis Deda)، التمثال الضخم الذي بات رمزًا تبليسيًّا لا يُخطئه زائر.


كانت المرأة المصنوعة من الألمنيوم تطلّ على المدينة من علٍ، بيدٍ تحمل سيفًا لمن تسوّل له إيذاءها، وبالأخرى كأس نبيذ ترحّب بمن يأتيها صديقًا. في هذه الرمزية تكمن روحية الجورجيين: الكرامة والضيافة، القوة والمودة في آنٍ معًا.


وقفنا أمام التمثال نلتقط الصور، لكن الأهم أننا تأملنا المدينة من الأعلى؛ أسطح المنازل المتراكبة، مآذن وكنائس، نهر متكفاري يشق قلب المدينة، ومزيج لا يُترجم إلا بكلمة واحدة: تبليسي.


تحدّيات مدينة أحببناها


ازدحام مفاجئ، بيوت خشبيّة مهدّدة، وبنية تحتيّة متعبة… ومع ذلك تُقاوم المدينة بتلفريك يعلو، ومشروعات ترميم واجهات، وحدائق على ضفاف النهر.



ختام


تبليسي ليست بندولًا بين الماضي والحاضر، بل نهرٌ يجمع ضفّتَين ويواصل الانسياب. أغادرها إلى باتومي عروس البحر الأسود وأنا أعلم أنّ شرفاتها ستظل تهمس بقصصٍ جديدة تنتظر عودتنا.

نشرت على مدونتي الشخصية


المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
بغداد دار السلام

.يسعدني أن أعلن أن كتابي الجديد بعنوان “Baghdad Dar Al-Salam – A City Once Called the Abode of Peace” سيصدر قريبًا. في هذا العمل، أروي...

 
 
 

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page