
جدارية الحرية :الضوء المنسي في ساحة الطيران
- Alaa Tamimi

- قبل 12 دقيقة
- 2 دقيقة قراءة
حين أنجز الفنان فائق حسن جدارية الحرية عام 1958 في ساحة الطيران، كان العراق يعيش واحدة من أكثر لحظاته السياسية توتراً وازدحاماً بالأسئلة. كانت البلاد قد خرجت لتوّها من قيدٍ طويل، وبدأت تبحث لنفسها عن خطاب جديد، وهوية جديدة، وصوتٍ يعبّر عن أحلام الناس العاديين الذين كانوا ينتظرون فجراً مختلفاً.
في تلك اللحظة، جاءت الجدارية كإعلان فني عن ولادة زمن آخر، وزمنٍ يتخيّل الإنسان فيه نفسه محوراً للتغيير.
جدارية فائق حسن ليست لوحة توثيقية، وليست بياناً سياسياً مباشراً؛ إنها عمل فنيّ يشتغل على الإيماءة والحركة والظل، وعلى الجسد البشري بوصفه رمزًا للانبعاث. الوجوه والأجساد فيها لا تقف جامدة؛ بل تتحرك كما لو أنها خُرِجَت للتو من قيودٍ قديمة.
تبدو الجدارية، للعين المتأملة، كأنها موجة بشرية صاعدة، تصعد من الماضي نحو ضوء يتشكّل خارج الإطار. فائق حسن كان يملك عينًا ترسم التاريخ من الداخل، لا من سطحه.
بعد 67 عامًا من التنفيذ، ما تزال الجدارية ماثلة في قلب العاصمة مثل ظلّ قديم يأبى أن يرحل.
تمرّ أمامها آلاف السيارات كل يوم، وتجري الحياة على الرصيف تحتها، لكن القليل فقط يرفع رأسه ليراها، والقليل يفكر أنها كانت يومًا من الأيام إعلاناً عن ولادة وطنٍ جديد.
إنها المشكلة ذاتها التي أصابت بغداد عبر عقود: عادةُ الاعتياد؛ حين تتحول الجوهرات التي تحتضنها المدينة إلى تفاصيل باهتة في عيون العابرين، فقط لأنها موجودة
كثيرون يخلطون بين هذه الجدارية وبين نُصب الحرية لجواد سليم في ساحة التحرير، لكنهما عملان مختلفان، ويمثل كل منهما رؤية فنية وإنسانية خاصة.
جدارية جواد سليم صرخة سياسية واضحة، أما جدارية فائق حسن فهي حكاية الإنسان في لحظة العبور، حكاية الخوف والمتاعب والرغبة في الحياة.
جدارية جواد كانت موجّهة إلى الشعب؛ أمّا جدارية فائق فكانت موجّهة إلى روح بغداد نفسها.
تسكن هذه الجدارية في منطقة عانت من العنف والانفجارات لسنوات طويلة. ولذلك فإنها ليست مجرد فنّ؛ بل شاهد على مراحل الألم التي عبرتها بغداد.
هي شاهدة على ما فعله الزمن بالمدينة، وعلى ما فقدته وما بقي منها.
وكأنها تقول للعابرين:
“أنا هنا… لا أزال أقف. أنتم تغيّرتم كثيرًا، لكنني ما زلت أحمل ملامحكم الأولى.”
لماذا تستحق الاهتمام؟
لأنها جزء من ذاكرة بغداد الحديثة.
ولأنها تمثل حقبة كاملة من أحلام العراقيين.
ولأن المدن التي تنسى فنونها، تنسى نفسها.
ولأن الجدارية—بكل بساطتها وعمقها—هي واحد من تلك المعالم التي تكشف نوع العلاقة التي تربط الناس بمدينتهم: علاقةُ محبة؟ أم عادة؟ أم تجاهل قاسٍ يمرّ مرورًا عابرًا؟
نشرت في مدونة الدكتور علاء التميمي

تعليقات