top of page

في قلب البلقان …حيث تتنفس المدن ذاكرة وحكايات

ree

انطلقتُ رحلتي من سراييفو، تلك المدينة التي تحتضن جراح الماضي بين طيات جسورها العتيقة، وتُطلِق أنفاس الأمل من بين أنقاضها. هناك، حيث يتهادى نهر ميلياتسكا كشاهدٍ على القرون، بدأت خيوط رحلتي تتشابك كسجادة بلقانية مطرزة بالأسرار.


والآن، تتجه خطواتي نحو الجبل الأسود – أو مونتينيغرو – تلك الجوهرة المختبئة بين صخور البلقان، حيث تلامس قمم الجبال الشماء زرقة الأدرياتيك، وتهمس القرى القديمة بحكايات بيزنطية وعثمانية ويوغوسلافية. إنها دولة فتية العمر، عميقة الجذور، تسير بثقةٍ بين الماضي والمستقبل، كسفينةٍ صغيرةٍ تحمل تراثاً ثقيلاً بأشرعةٍ

بعد مغادرة سراييفو، انعطف بنا الطريق عبر متاهات من الوديان الخضراء والجبال التي تبدو كحراسٍ أبديين. السيارة تقودها يدُ الصديق إحسان، بينما تقودني الأسئلة إلى عمق التاريخ. مائة وثلاثون كيلومتراً من المنعطفات، كل منها يروي فصلاً من حكاية هذه الأرض.


و صلنا نيكشيتش Niksicكالغرباء الحذرين، لكن المدينة استقبلتنا كصديقٍ قديم. ليست صاخبةً كغيرها، بل هي ككتابٍ مفتوح، صفحاته شوارع نظيفة، وكلماته نوافذُ تطل على الزمن البائد.

تقع نيكشيتش** (Nikšić) في غرب الجبل الأسود**على بُعد نحو 50 كم من العاصمة**بودغوريتسا**. تُعد ثاني أكبر مدن البلاد، وتتميز بموقعها بين الجبال الخضراء مما يمنحهاطبيعةً خلابة


في قلبها، وقف تمثال الملك نيكولا الأول شامخاً على حصانه، كحارسٍ للذاكرة.

اجبر الملك نيكولا بعد الحرب العالمية الأولى،  على التنازل عن العرش بعد ضم الجبل الأسودإلى مملكة الصرب والكروات والسلوفينيين ( يوغوسلافيا لاحقا .

لحظة توقفت فيها أنفاسي: التمثال ما زال قائماً! لم يُهدم كما يُهدم التاريخ في أماكن أخرى حين تتغير الأنظمة. هنا، في نيكشيتش، لا يُحاكم الماضي بالعواطف، بل يُترك كمرآةٍ للأجيال. التمثال ليس مجرد نحتٍ من البرونز، بل هو سؤالٌ معلق في الهواء: *من هذا الرجل؟ ولماذا بقي؟ وكيف تغير العالم من حوله؟*


هذه المدينة تعرف فنَّ التعايش مع تاريخها دون خجلٍ أو تبجيلٍ مفرط. إنها تقدّم ماضيها كما هو: حكايةٌ لا تحتاج إلى تزيين.


البلقان… لوحةٌ من الفسيفساء والتناقضات


سأمضي قدماً في رحلتي عبر هذه المنطقة التي تشبه قصيدةً مكتوبةً بعدة لغات. هنا، تتعانق المآذنُ مع أجراس الكنائس, وتتلاقى القرى الألبانية مع المدن الصربية في رقصةٍ قديمة من التعايش والصراع. إنها أرضٌ لا تفهمها إلا إذا أصغيتَ إلى همساتِ تاريخها الطويل.


لقد كانت يوغوسلافيا يوماً كياناً واحداً، ثم انفجرت كزجاجة عطرٍ في يد طفل، تاركةً عطرها يُعبق في سبع دول: **البوسنة، الجبل الأسود، مقدونيا، صربيا، كوسوفو، سلوفينيا، وكرواتيا**. كلٌّ منها يحمل جرحاً، وكلٌّ منها يحمل حلماً.


متعتي في السفر تتيح لي بصفتي مهندساً وخبيراً في التخطيط الحضري، ان أرى المدن كائنات حيةٍ تنبض . أقرأ شوارعها كأسطرٍ من مذكراتها، وألمس تاريخها في وجوه أهلها. وأنا هنا برفقة صديقَيّ العزيزين شاكر وإحسان ، نبحث عن الروح الخفية لهذه الأماكن.


هذه الرحلة ليست إلا فصلاً جديداً من كتابي الذي لم يُكتب بعد، (مدن وذكريات ) والذي آمل أن يرى النور مع الربيع القادم. كتابٌ يجمع بين حكايات السفر واسرار المدن و زيارة سريعة للتاريخ يجمع ، بين بهجة الاكتشاف وعمق التأمل.


فالمدن التي تصادفنا في حياتنا ليست مجرد مكان… إنها فصل في رحلة حياة


المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
سلام النفس في حاضرها

🌿 خاطرة الجمعة لا تحملوا الماضي فوق أكتافكم، ولا تسبقوا بأفكاركم ما لم يأتِ بعد. الماضي—بأخطائه وندمه—لا يعود، فلا تجعلوه قيدًا يثقل...

 
 
 

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page