في قلب البلقان… حيث تتنفس المدن ذاكرةً وحكايات
- Alaa Tamimi
- 12 يوليو
- 3 دقيقة قراءة

ودّعنا سراييفو كما يُودّع الإنسان صديقًا دافئًا، بعد أن قضينا فيها أيامًا تركت في القلب أثرًا وفي العين حنينًا. عبرنا شوارعها المعروفة وتقاطعاتها التي حفظناها في الأيام القليلة الماضية، ثم أخذنا طريق الجنوب متجهين نحو دولة الجبل الأسود.
لم يكن الطريق من سراييفو إلى الحدود مجرد انتقال جغرافي، بل عبورٌ من عالم إلى آخر. ازدادت الجبال علواً كلما تقدمنا، واختلطت الغابات بالضباب الخفيف، كأنها لوحة مرسومة بفرشاة فنان تأخر في النوم واستفاق على صوت الطيور.
رغم أن الرحلة لم تستغرق أكثر من ثلاث ساعات ونصف، إلا أنها كانت غنية بالمشاهد. مررنا بقرى صغيرة متناثرة على جانبي الطريق، تفيض سكينة، ووديان تحتضنها الطبيعة كأنها لم تتغيّر منذ قرون.
انعطف بنا الطريق بعد مغادرة سراييفو عبر متاهات من الوديان الخضراء والجبال الشامخة، التي بدت كحراس أبديين. السيارة كان يقودها الصديق العزيز إحسان، يقص علينا بهدوئه المعتاد فصولًا من حياته، بينما شاكر العزيز في المقعد الخلفي يزوّدنا بالتين والمشمش الطازج، ويذكرنا من حين لآخر بتجاوز السرعة. أما أنا، فكنت مستغرقًا في تفاصيل الطبيعة، أبحث بين طيّاتها عن إشارات من التاريخ.
قطعنا حوالي 180 كيلومترًا من المنعطفات، كل منعطف منها يروي فصلًا من حكاية هذه الأرض.
توقفنا في مدينة بوسنية جميلة تُدعى فوتشا (Foča) للاستراحة، ثم واصلنا الرحلة وعبرنا الحدود نحو الجبل الأسود. كان واضحًا من تحسن الطريق وانسيابيته أن مستوى البنية التحتية هنا أعلى، مما يعكس الأثر الإيجابي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن سرعان ما فاجأتنا دورية شرطة متخفية، أوقفنا شرطي ستيني يحمل كاميرا رادارية، وأبلغنا أن سرعتنا كانت 72 كلم/س، بينما المسموح 60 كلم/س، مما يترتب عليه غرامة 50 يورو، تُضاف إليها 50 أخرى لعدم وضع حزام الأمان من قبل الراكب الخلفي.
وبدبلوماسيته المعهودة، تفاوض إحسان مع الشرطي، وانتهى الموقف بدفع 50 يورو نقدًا… بلا وصل! مما يترك في النفس إحساسًا أن آثار النظام السابق ليوغوسلافيا الاشتراكية لا تزال كامنة.
وصلنا مدينة نيكشيتش (Nikšić) عند الظهيرة. دخلناها كالغرباء الحذرين، لكنها استقبلتنا كصديق قديم. ليست مدينة صاخبة، بل هي ككتاب مفتوح، صفحاته شوارع نظيفة، وكلماته نوافذ تطل على زمنٍ بائد.
تقع نيكشيتش غرب الجبل الأسود، وتعد ثاني أكبر مدنه، على بُعد حوالي 50 كم من العاصمة بودغوريتسا.
في ساحة المدينة ينتصب تمثال الملك نيكولا الأول على صهوة جواده، لم يُهدم رغم تغيّر الأنظمة. ففي نيكشيتش، لا يُحاكم الماضي بالعواطف، بل يُترك كمرآةٍ للأجيال.
ذلك التمثال ليس مجرد نحت برونزي، بل سؤال معلق: من هذا الرجل؟ ولماذا بقي؟ وكيف تغيّر العالم من حوله؟
ولكي لا يُساء فهمي، فأنا لا أتعاطف مع رمزية الحاكم الظالم، بل أؤمن أن للتاريخ قيمة تتجاوز الولاءات. فالأجدر بالأجيال أن ترى التمثال أولًا، ثم تقرأه، ثم تسأل: من هذا؟ ولماذا بقي؟ وماذا تعلّمنا منه؟
جلسنا في مقهى يطل على الساحة، تناولنا عشاءً بسيطًا من سمك السلمون والسلطات مع عصير برتقال طبيعي. ورغم أنه أحد المطاعم الراقية في المدينة، إلا أن التكلفة لم تتجاوز 70 يورو – سعر يُدهشنا نحن القادمين من كندا.
بعد العشاء، تجولنا في الشوارع الحيوية، ثم عدنا إلى الفندق استعدادًا ليوم جديد.
غادرنا نيكشيتش صباحًا متجهين إلى مدينة كوتور على ساحل البحر الأدرياتيكي. كلما اقتربنا من الساحل، تحولت الطبيعة من هضاب خضراء إلى منحدرات صخرية تطل على مشاهد آسرة. الطريق هنا عرض بصري دائم؛ كل منعطف يكشف واديًا عميقًا، وكل ارتفاع يُلمّح إلى زرقة البحر.
على جانبي الطريق، تنتشر أشجار التين والرمان، كأنها تبارك عبورنا.
دخلنا كوتور عند الظهيرة، فبدت كجوهرة محمية داخل قوسٍ جبلي. المدينة القديمة بسورها العتيق وأزقتها الحجرية تحكي تاريخًا طويلاً، بصوت كمان يعزفه شابٌ في ساحة صغيرة تطوّقها الكنائس والقلاع.
كوتور مدينة لها روح، تشبه الشِعر… تحكيه دون كلمات.
استرحنا قليلاً في أحد المقاهي، ثم واصلنا نحو بودفا (Budva)، عروس الأدرياتيكي. استقبلتنا المدينة بفخامة مبانيها المطلة على البحر وبحيوية شواطئها. تناولنا وجبة من السمك الطازج في مطعم جميل، ثم أنهكنا التعب، فاتجهنا للفندق لقضاء الليلة.
البلقان… لوحة من الفسيفساء والتناقضات
رحلتي عبر البلقان مستمرة، كقصيدة مكتوبة بعدة لغات. هنا تتعانق المآذن مع أجراس الكنائس، وتلتقي القرى الألبانية بالمدن الصربية في رقصةٍ قديمة من التعايش والتنافر.
يوغوسلافيا التي كانت يومًا دولة واحدة، انفجرت كزجاجة عطرٍ في يد طفل، تاركة أثرها في سبع دول: البوسنة، الجبل الأسود، مقدونيا، صربيا، كوسوفو، سلوفينيا، وكرواتيا. كلٌّ منها يحمل ندبة، وكلٌّ منها يركض وراء حلم.
متعتي في السفر أن أرى المدن ككائنات حية، تنبض. أقرأ شوارعها كأنها مذكرات، وأتلمّس التاريخ في وجوه الناس.
وأنا هنا، برفقة صديقيَّ العزيزين شاكر وإحسان، نبحث معًا عن الروح الخفية لكل مكان نمر به.
هذه الرحلة ليست سوى فصل جديد من كتابي القادم:
“مدن وذكريات”
كتابٌ يجمع بين حكايات السفر، وأسرار المدن، ونبض الذاكرة. أرجو أن يرى النور في ربيع العام المقبل.
فالمدن التي نصادفها، ليست مجرد أمكنة… إنها فصول في حكاية حياة.
شكرا د علاء على الوصف الجميل والشامل عن زيارتكم إلى مدن البلقان، وجمال المدن يزداد عندما ترى تاريخها حاضر للزائر كمتاحف وتماثيل وقصور وكنائس ..الخ اما المدن الخالية من الماضي كشجرة اقتلعت من الارض يابسة ويقد تجدها مملوءة بالحشرات الضارة. سفرة موفقة
في كل مرة يظهر منشور احلا من الذي قبله . نحن نتطلع لكتاب يضم كل هذه الخواطر عن مختلف مدن العالم .