top of page

قمة الاسكا : بين ارث الحرب الباردة وتحديات النظام الداخلي


انعقدت قمة ألاسكا في ١٧ آب ٢٠٢٥ بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في لحظة سياسية مشحونة بالتوقعات. فقد رآها البعض بوابة محتملة نحو وقف النزاع الأوكراني، بينما اعتبرها آخرون مجرّد استعراض دبلوماسي يكرّس الانقسام الدولي بدل أن يجسر الهوّة. وبالفعل، جاءت النتائج دون أي اتفاق ملموس، ليبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن أمام بداية تحوّل استراتيجي، أم مجرّد تكرار لطقوس قمم سابقة من دون أثر فعلي؟


انعقاد القمة بغياب أوكرانيا والاتحاد الأوروبي شكّل إشارة سياسية بالغة الدلالة. فهي تعكس رغبة موسكو وواشنطن في احتكار القرار، كما حدث في قمم الحرب الباردة التي تجاهلت حينها أصوات الدول الصغيرة المتأثرة بالصراع. لكن الفارق أن أوروبا اليوم ليست على الهامش تمامًا، بل طرف مباشر مهدَّد أمنيًا واقتصاديًا. لذلك، فإن تغييبها عن المفاوضات يعمّق الشرخ داخل المعسكر الغربي، ويعزز الانطباع بأن القمة أقرب إلى تفاهم ثنائي رمزي منها إلى مسار دولي شامل.


عند مقارنة قمة ألاسكا بقمة فيينا عام ١٩٦١ التي جمعت كينيدي بخروتشوف، يظهر تشابه جوهري: الطرف الأقوى ميدانيًا يفاوض من موقع فرض الشروط. كما أن بوتين، على غرار خروتشوف، يدرك أن التفوق العسكري النسبي يمنحه مساحة أوسع للمناورة. وفي المقابل، يسعى ترامب، مثل كينيدي في حينه، إلى تسويق صورة “الرئيس القوي” أمام الداخل، حتى وإن جاءت النتائج ضبابية.

لكن الفارق الأهم أن الحرب الأوكرانية ليست مجرد مواجهة ثنائية؛ إنها صراع مركَّب يدخل فيه الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، ودول الجنوب العالمي، ما يجعل أي تفاهم ثنائي هشًّا وغير قابل للصمود طويلًا.

ترامب يقدّم نفسه وريثًا لنهج نيكسون الذي فتح قنوات مباشرة مع بكين في السبعينيات. غير أن المقارنة تكشف فوارق بنيوية: نيكسون استفاد من انقسام صيني–سوڤييتي ووازن بين قوتين عظميين، بينما ترامب يحاول التعامل مع روسيا في وقت تتقارب فيه مع الصين. لذا فإن أي رهان على أن بوتين سيبتعد عن بكين مقابل تفاهم مع واشنطن يبدو ضعيف الأساس، وهو ما يحدّ من القدرة على إعادة إنتاج “صدمة نيكسون” جديدة.


اخيرا في سبعينيات القرن الماضي، قادت قمة هلسنكي إلى اتفاقيات عززت الأمن الأوروبي لكنها لم تُنهِ الصراع الإيديولوجي بين الشرق والغرب. واليوم، يسعى ترامب إلى مخرج مشابه عبر صفقة جزئية مع موسكو. غير أن أوكرانيا، بعكس أوروبا الشرقية في ذلك الزمن، ترفض أن تكون مجرد ورقة تفاوض. اجتماع ترامب المرتقب مع زيلينسكي في واشنطن سيكون لحظة فاصلة: إما يكرّس الدعم الأمريكي المباشر، أو يفتح الباب لتقليصه وتحميل أوروبا العبء الأكبر، بما يهدد بتصدع الجبهة الاوربية.


القمة لم تُنتج حلولًا، لكنها كشفت عن ثلاثة مسارات عميقة:

1. روسيا تفرض نفسها لاعبًا لا يمكن تجاهله، حتى في ذروة الضغوط الغربية.

2. الولايات المتحدة تعود إلى منطق الصفقات الثنائية، مبتعدة عن بناء تحالفات جماعية كما في عهد بايدن.

3. أوروبا تجد نفسها أمام مأزق استراتيجي: الاعتماد على واشنطن لم يعد مضمونًا، فيما قدراتها الذاتية ما زالت غير كافية لردع موسكو.


إذا كانت قمم الحرب الباردة من يالطا إلى ريكيافيك قد عكست صراعًا على قواعد النظام الدولي، فإن قمة ألاسكا اليوم تعكس أزمة النظام ذاته. فالنزاع الأوكراني تحوّل من حرب إقليمية إلى اختبار شامل لإرادة القوى الكبرى، ولجدوى العقوبات، ولقدرة التحالفات عبر الأطلسي على الصمود.

ما بين التصريحات التي تبشر بالتقدم والواقع الذي يكرّس الجمود، تظل الفجوة قائمة، ويظل السلام بعيد المنال، بانتظار إعادة صياغة شاملة لقواعد اللعبة الدولية.



المنشورات الأخيرة

إظهار الكل

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page