top of page

ألبانيا في اليوم الثاني: تيرانا … مدينة تنبض بالتحول

  • صورة الكاتب: Alaa Tamimi
    Alaa Tamimi
  • قبل يوم واحد
  • 2 دقيقة قراءة

استيقظنا صباحا مبكرين، وفضول الاكتشاف يسبقنا إلى شوارع تيرانا، العاصمة الألبانية التي تحتضن نحو ستمائة ألف نسمة وسط جبال وأحلام وتاريخ متقلب. هنا، في قلب ألبانيا، لا تتشابه الساعات ولا تتكرر اللحظات، فكل زاوية تهمس بسر، وكل ركن يحمل حكاية.


تيرانا ليست مدينة تاريخية بالمعنى الكلاسيكي، بل مدينة تتغير أمام عينيك، تخلع جلد الماضي وتلبس معطف الحداثة بألوان زاهية. في الساحة الرئيسية، ساحة سكاندربغ، يمتزج صوت الحاضر بنبض الماضي؛ التمثال البرونزي للبطل القومي سكاندربغ يتصدر المشهد، فارسًا على صهوة جواده، ينظر بثبات نحو الأفق كأنه ما زال يحرس البلاد من الغزاة. حول الساحة تنتصب مبانٍ حديثة وحدائق غنّاء، وتطل المسارح والمقاهي بروح أوروبية ودفء بلقاني.


تجذبنا خطواتنا إلى أحد المقاهي الصغيرة، حيث جلسنا نحتسي عصير البرتقال الطازج، نراقب الوجوه العابرة والأحاديث المتداخلة باللغات واللهجات. سكان تيرانا ودودون بالفطرة، يحملون في عيونهم وداعة من عاش زمناً في العزلة وعاد يكتشف العالم من جديد. هنا، يشعر السائح كأنه صديق ضائع وجد نفسه فجأة وسط عائلة كبيرة.


في قلب المدينة، تفرض ساحة سكاندربغ حضورها كرمز حي لذاكرة الألبان الجماعية. فإلى جانب التمثال، يطل المتحف الوطني للتاريخ بواجهته التي تحمل لوحة جدارية ضخمة تُدعى “الألبان عبر التاريخ”. هذا العمل الفني البانورامي يرسم رحلة شعب ألبانيا، من المحاربين الإيليريين، إلى الثوار الذين قاوموا الفاشية، وصولاً إلى رموز الاستقلال. شخصيات تسير متكاتفة تحت علم ألبانيا، وألوان اللوحة تحاكي حيوية شعب لم يعرف إلا الكفاح من أجل الكرامة.


تتزين الساحة بحجارة جُمعت من شتى أنحاء البلاد، وكأنها خارطة مصغرة لألبانيا. النافورات المتراقصة وحدائقها الهندسية تزرع في القلب إحساسًا بالجمال والانفتاح. وفي المساء، تضيء الأنوار واجهات المباني، فيتحول المكان إلى فسيفساء من الأضواء والظلال، حيث يلتقي التاريخ بالفخر الوطني في قلب العاصمة النابض.

زيارة جامع إتهِم باي: حين يروي الحجر حكاية الروح


في قلب العاصمة تيرانا، وأمام ساحة سكاندربغ النابضة بالتاريخ والرموز، توقفنا طويلاً أمام أحد أقدم معالم المدينة وأكثرها مهابة: جامع إتهِم باي. لم يكن مجرد مبنى عثماني مغطى بالقباب والنقوش، بل سردية صامتة عن الزمن، عن الروح الإسلامية التي وجدت في البلقان ملاذًا وجمالاً.


بُني المسجد في أواخر القرن الثامن عشر، بين عامي 1793 و1794، ليكون شاهدًا على مرحلة من التلاقح الحضاري بين العثمانيين وألبانيا. واليوم، بعد أكثر من قرنين، تقف لافتة عند مدخله تشير بفخر إلى ترميمه عام 2021، بجهود مشتركة بين جمهوريتي تركيا وألبانيا.

ما لفت نظري ليس فقط دقة النقوش الداخلية، ولا المئذنة التي تتحدى السماء رغم صغرها، بل وقوف هذا المسجد في قلب مدينة حديثة، كأنه يذكر الأجيال أن الماضي ليس عبئًا، بل جذرًا لا بد أن يُروى ويُحتفى به

وبينما كنا نخطو خطواتنا في تلك المساحة المفعمة بالحياة، لفت انتباهنا بناء غامض قريب من الساحة. إنه ملجأ نووي سري شيده النظام الشيوعي في سنوات الحرب الباردة، ليكون حصنًا محصنًا لقيادات وزارة الداخلية في مواجهة هواجس الحرب التي لم تأتِ. تحول هذا الملجأ، المعروف اليوم باسم “بونك‌آرت 2”، إلى متحف تحت الأرض، تنتشر داخله عشرات الغرف والأنفاق المعتمة، ويعرض صورًا ووثائق وتجهيزات تكشف فصول القمع والمراقبة التي عاشها الشعب الألباني لسنوات. زيارة هذا المكان ليست مجرد جولة في أروقة خرسانية، بل هي رحلة في ذاكرة أمة خرجت من الخوف إلى ضوء الحرية والانفتاح، تحمل للزائر درسًا عميقًا عن قدرة الشعوب على التصالح مع ماضيها وبناء مستقبل جديد.


تيرانا، بهذا المزيج المدهش من الأصالة والجرأة، كانت بمثابة استراحة حضرية تمنح المسافر متسعًا للتأمل وفرصة لاكتشاف ألبانيا التي لا تزال تكتب فصولها بثقة في دفتر أوروبا.



Commenti

Valutazione 0 stelle su 5.
Non ci sono ancora valutazioni

Aggiungi una valutazione
bottom of page