top of page

سكوبيه عاصمة مقدونيا… حيث يتجسد التاريخ في البرونز والرخام

  • صورة الكاتب: Alaa Tamimi
    Alaa Tamimi
  • قبل يوم واحد
  • 3 دقيقة قراءة


غادرنا صباحا مدينة أوهريد Ohrid متجهين إلى العاصمة سكوبيه Skopje كانت الشمس تصعد ببطء فوق البحيرة، تنعكس على سطحها بصفاء يشبه صفحة تاريخ لم يُكتب بعد.

الطريق الممتد بين المدينتين يبلغ قرابة 172 كيلومترًا، استغرقنا في قطعه نحو ثلاث ساعات، عبرنا خلالها جبالًا متعرجة وهضابًا خضراء تشبه القصائد التي لم تُكتب، تمرّ بنا قرى صغيرة ووديانٌ هادئة تنام تحت غطاء من الضباب الخفيف.


توقفنا في منتصف الطريق عند محطة بسيطة على أطراف بلدة كيتشيفو (Kičevo)، حيث تناولنا القهوة في مقهى محلي يطل على منحدر أخضر، وتبادلنا الأحاديث مع رجل عجوز كان يروي، بلغته ومحبّته، حكايا الجبل والحرب والشتاء الطويل.


وصلنا العاصمة قبل الظهيرة، وفي أولى خطواتنا وسط المدينة القديمة، بدأ الإحساس يختلف. هنا، لا تكتفي المدينة بأن ترحّب بك، بل تُمسك بك من ذراعك وتأخذك في جولة عبر قرون من التحولات. كل شيء بدا صامتًا لكنه يتكلم الجدران، النُصب، الجسور، وحتى المارة. وكأن سكوبيه قررت أن تروي لنا حكايتها لا بالكلمات، بل بالحجر والبرونز، والماء الذي يتراقص في نوافيرها كأنّه ذاكرة متجددة.


في قلب العاصمة المقدونية سكوبيه، لا يسير الزائر في شوارع فقط، بل يعبر فسيفساء من التاريخ والأسطورة والسياسة، تتجسد كلها في تماثيل ونُصُب تتناثر بين الجسور والساحات. مشينا بين هذه المنحوتات التي تحولت إلى شواهد بصرية لذاكرة وطنٍ يُعيد تشكيل ماضيه على مرأى من الحاضر.


تماثيل تُحدّثك


أمام المتحف الأثري، توقفتُ أمام لوحة نحاسية تخلّد اسم متوديا شاتوروف - شارلو (1898–1944)، أحد قادة الكفاح الشيوعي ضد الاحتلال الألماني النازي خلال الحرب العالمية الثانية. إلى جانبه، يقف تمثال برونزي يرمز إلى تلك المرحلة النضالية التي مزجت الثورة بالإيمان بعدالة الفقراء. قربه، ينتصب تمثال آخر لرفيقه في الكفاح السياسي متوديا أندونوف-تشينتو، أول رئيس لمجلس مقدونيا بعد الحرب العالمية الثانية.


اللافت في هذه الساحة العامة ليس تمثالًا واحدًا، بل كثافة الرموز قادة وملوك وقديسون ومقاتلون… وكأن المدينة استعادت كل وجوهها دفعةً واحدة.


الإسكندر… المحارب المتواري وراء اسمه


لكن أكثر هذه النُصُب إثارة، بلا منازع، هو تمثال الإسكندر الأكبر، رغم أن اسمه الرسمي هو: “المحارب على الحصان”. لاعتراض اليونان على استخدام شمال مقدونيا لرمزية الإسكندر الأكبر، لأنه يُعتبر بطلاً قومياً يونانياً حيث كانت مملكة مقدونيا القديمة جزءاً من الحضارة اليونانية) وبسبب هذا النزاع، تم تجنب التسمية المباشرة لتجنب الاحتكاك مع اليونان.


يرتفع هذا التمثال البرونزي الشامخ في ساحة مقدونيا، ويبلغ طوله الكامل مع القاعدة والنافورة المحيطة به حوالي 30 مترًا. ترى الفارس يرفع سيفه عالياً، فيما يتحرك حصانه للأمام بزهو المنتصر، تحيط به ثمانية أسود برونزية وتماثيل لجنود مقدونيين، وكأنك وسط مشهد سينمائي ببطولة تاريخية.


ليلاً، تضاء النافورة الملونة بأنغام موسيقى وطنية، فتتحول الساحة إلى عرضٍ دائمٍ لذاكرة قومية حيّة. ولكن خلف هذا الجمال البصري، تقف أسئلة سياسية معلّقة هل هذا التمثال مجرّد احتفاء بالتاريخ؟ أم أنه رسالة سياسية موجهة نحو الجارة الجنوبية اليونان، التي ترى أن الإسكندر الأكبر جزء لا يتجزأ من تاريخها؟


مشروع “سكوبيا 2014” بناء هوية على هيئة تمثال.


جاءت كل هذه التماثيل في إطار ما عرف باسم مشروع سكوبيا 2014، وهو خطة طموحة أطلقتها الحكومة المقدونية عام 2008 لإعادة تصميم وسط العاصمة بمظهر كلاسيكي قومي يمجّد التاريخ المقدوني القديم والحديث

شمل المشروع إعادة تهيئة الساحات والجسور بأسلوب كلاسيكي وبناء عشرات التماثيل لشخصيات سياسية وتاريخية و تشييد مبانٍ ضخمة على الطراز الروماني و تشييد متاحف جديدة وجسور وتماثيل لرموز مسيحية وبيزنطية وقد بلغت تكلفة المشروع أكثر من 500 مليون يورو، وأثار جدلاً واسعًا داخليًا وخارجيًا، بسبب رمزيته القومية والانتقادات التي وُجهت له بالتلاعب بالهوية التاريخية.


بين الهوية والجدل


لا يمكن لأي زائر أن يمر بسكوبيه دون أن يشعر بثقل الرسائل التي تبثها هذه التماثيل إنها مدينة تحاول أن تُعيد تعريف نفسها، لا من خلال سردية واحدة، بل عبر جداريات وتماثيل تخلق حوارًا بصريًا متشابكًا. من شاتوروف الثوري، إلى الإسكندر الإمبراطوري، إلى القديسين والأبطال، سكوبيه تقول لزائرها: “أنا مدينة تبحث عن ذاتها، وتكتب هويتها بالحجر والبرونز والماء”.


خاتمة: تماثيل تتكلّم… وذاكرة لا تنام


حين غادرنا سكوبيه، كنت أشعر أنني لا أترك مدينة، بل أودّع مسرحًا من البرونز والرخام والظلال، حيث تتشابك الروايات وتتقاطع الأزمنة. لم تكن التماثيل هناك مجرد زينة حضرية، بل كلمات صامتة كُتبت في الهواء المفتوح، تنطق بالسياسة والهوية والتاريخ، وتُشبه في رماديتها أحيانًا المدن التي تنحت مصيرها في صمت.


ولأن المدن، كما البشر، لا تتشابه إلا حين نراها من بعيد، فإن سكوبيه بدت لي مختلفة، بطابعها الجامح نحو صناعة ذاكرة مرئية، وبمحاولتها أن تُعرّف نفسها من خلال ما ترفعه لا ما تخفيه.


ومع كل مدينة أزورها في هذه الرحلة – من سراييفو إلى نيكشيتش، ومن كوتور إلى أوهريد – أجد أن لكل واحدة طريقتها في البوح. بعضها يهمس، وبعضها يصمت، وبعضها – كما فعلت سكوبيه – يصرخ في وجه الغياب قائلاً:

“أنا هنا… لا تنسني.”



المنشورات الأخيرة

إظهار الكل

Comments

Rated 0 out of 5 stars.
No ratings yet

Add a rating
bottom of page