
سراييفو: حين يروي الحجر ذاكرة التاريخ وتوشوش الأزقة بأسرار الزمن
- Alaa Tamimi
- 10 يوليو
- 3 دقيقة قراءة
جئنا إلى سراييفو، نحن الثلاثة، من كندا… أنا، وصديقيّ العزيزين شاكر وإحسان، في رحلة قصيرة لكنها مشحونة بالدهشة والانبهار. كنا قد قررنا أن نترك خلفنا صخب الحياة اليومية ونمنح أنفسنا فسحة لاكتشاف دول البلقان وبدأناها من سراييفو مدينة تقف على تقاطع التاريخ، الدين، والجمال الطبيعي. ولم يخيب ظنّنا. فهذه المدينة، رغم ما شهدته من مآسٍ، ما تزال تحتفظ بهدوءها الجليل، وبطاقة لا تنضب من الحكايات.
بين ظلال المآذن… زيارة إلى جامع الغازي خسرو بك
كانت محطتنا الأولى هي جامع الغازي خسرو بك، أحد أروع معالم البوسنة الإسلامية. وقفنا أمام أبوابه الخشبية الثقيلة، نشعر بخشوعٍ لا مصدر له سوى عبق التاريخ. هذا المسجد، الذي بُني في القرن السادس عشر، لم يكن فقط تحفة معمارية، بل شاهدًا حيًا على حقبة من التسامح الحضاري والازدهار الثقافي الذي عرفته سراييفو.
تأملنا مئذنته العالية التي تعانق السماء، واستمعنا إلى صوت الأذان وهو يخترق الفضاء برهافة كأنّه ينسج صلاة من الضوء والصوت. زُرنا أيضًا المتحف المرافق والتُربتين حيث يرقد الغازي خسرو بك ومعلمه محمد حدى، فشعرنا كأننا نُصافح الذاكرة ونسير برفق داخل سجل مفتوح من المجد العثماني في قلب أوروبا.
ولم يكتمل جمال المشهد إلا بوجود كنيسة مهيبة تقف بتواضع مقابل المسجد، كرمز حيللتعايش الديني الذي تتنفسه المدينة، حيث يمتزج صوت الأجراس مع نداء المؤذن في لوحةإنسانية رائعة تروي قصة التسامح عبر العصور.
الاغتيال الذي أشعل حربًا… بتقنية الواقع الافتراضي
في اليوم التالي، قصدنا متحفًا من نوع مختلف: VRX Sarajevo – المتحف التفاعلي للواقع الافتراضي. هناك جلسنا على مقاعد صغيرة، لنشاهد فلم قصير لننتقل مباشرة إلى صباح يوم 28 حزيران 1914.
كنا فجأة في شوارع سراييفو القديمة، نشهد لحظة زيارة الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند وزوجته صوفي تشوتيك. رأينا الموكب يمر بين الحشود، وسمعنا الطلقات التي دوّت في الذاكرة البشرية إيذانًا باندلاع الحرب العالمية الأولى.
رافق العرض القصير، جمع بين التوثيق والسرد، وأضاء على التوتر السياسي في البلقان آنذاك. خرجنا من المتحف ونحن نهمس لبعضنا: من كان يتخيل أن رصاصة في زاوية شارع، يمكن أن تغيّر وجه العالم؟
بشارشيا… حين تصير الذاكرة ملموسة
وقبل أن نغادر سراييفو، كان لا بد من أن نمشي في أزقتها الضيقة المرصوفة بالحجر، وتحديدًا في سوق بشارشيا العثماني العتيق. هنا، حيث تختلط أصوات الباعة بروائح القهوة والبهارات والنحاسيات، شعرنا أننا لسنا سياحًا بل أبناء المدينة.
وقفنا أمام سبيل الماء “Sebilj” وتذوّقنا القهوة البوسنية الأصيلة. مررنا على محلات الصفارين، التي ذكرتنا بسوق الصفافير في بغداد وعلى برج الساعة الذي لا يزال يعمل وفق التقويم القمري، وعلى واجهات تعرض المطرزات والسجاد وكأنها صفحات من تاريخ حيّ.
ورغم بساطة المكان، كان قلب المدينة يخفق تحت أقدامنا… مدينة يلتقي فيها المسجد والكنيسة والكنيس في مربع واحد، بلا صراع، بل بنبض مشترك.
بعد الضهر قصدنا المتحف الوطني للبوسنة والهرسك، وهو واحد من أعرق المؤسسات الثقافية في المنطقة. خلف جدرانه الكلاسيكية الصفراء، تنفتح أبواب الذاكرة على ماضٍ طويل يمتد من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقب العثمانية والنمساوية.
تجولنا بين أروقة المتحف، حيث استوقفتنا مخطوطة سراييفو هاغادا، واحدة من أقدم مخطوطات التوراة المصورة في العالم، وقد حُفظت هنا بقدسية واحترام. شاهدنا قطعًا أثرية تعود لآلاف السنين، بقايا معابد وأدوات وأوانٍ فخارية، وسجادًا تقليديًا يعكس تنوع الحرف اليدوية في البلاد ومعدات نحاسية علق عليها صديقي احسان انها تشبه كثيرا اواني النحاس العراقية !
كان المتحف ليس فقط نافذة على التاريخ، بل على روح الشعب البوسني المتعدد، الذي حمل عبر القرون ثقافاتٍ متداخلة وصاغ منها هوية فريدة، تستحق الاحترام والفهم.
رحلة إلى الأعلى… حيث تلتقي سراييفو بالسماء
في آخر النهار، قررنا أن نختم جولتنا بطريقة مختلفة… بالصعود نحو القمة. توجهنا إلى محطة التلفريك القديمة، حيث أخذتنا العربات الهوائية (Cable Train) بهدوء نحو أعالي الجبل المطلّ على سراييفو.
كانت الرحلة قصيرة زمنًا، لكنها عميقة أثرًا. كنا نعلو ببطء، والمدينة تتقلص تحتنا، كأنها مجسّم صغير من الذاكرة. رأينا مآذن المساجد وقباب الكنائس تتناثر بين الأبنية، كأنها تنشد معًا نشيدًا واحدًا بلغة التعايش.
وعندما وصلنا القمة، كان المشهد ساحرًا. وقفنا على منصة المشاهدة، ونحن نلتقط الصور ونلتقط أنفاسنا أيضًا. هناك، بين الغيم والأفق، شعرنا أن سراييفو ليست مجرد مدينة… بل حكاية ترتفع بك كلما اقتربت منها
رفقة السفر… دفء الذكريات
ما جعل الرحلة أجمل وأعمق، هو أنني لم أكن وحدي. كان شاكر بروحه المرحة و حساباته الدقيقة، وإحسان بعمقه الإنساني وتفاؤله الهادئ، رفيقين في هذه الجولة التي ستبقى في الذاكرة. تحدثنا كثيرًا، وتأملنا أكثر، واكتشفنا أن المدن لا تكشف أسرارها إلا لمن يسير فيها بقلب مفتوح.
الوداع… على وعد بالعودة
في صباح اليوم التالي، غادرنا سراييفو، وكل منا يحمل في داخله مشهدًا خاصًا، وذكرى لم تُلتقطها الكاميرا، بل القلب.
لكن الرحلة لم تنتهِ بعد… فقد قررنا أن نستكشف بقية دول البلقان في الأيام القادمة، حيث نتابع المسير إلى مدن جديدة، وجبال أخرى، وحكايات لم تُروَ بعد.
وسأرويها لكم قريبًا.
تعليقات