top of page

نهاية اللحظة الأميركية وبداية عالم متعدد الأقطاب



قبل أكثر من ثلاثة عقود، أعلن سقوط الاتحاد السوفيتي بداية ما وصفه البعض بـ “اللحظة الأميركية”. بدت الولايات المتحدة وكأنها القوة الوحيدة القادرة على رسم ملامح العالم. مؤسساتها، قيمها، وقوتها العسكرية والاقتصادية بدت بلا منافس. لكن التاريخ أثبت سريعاً أن الأحادية القطبية لم تكن قدراً دائماً، بل وهماً قصير الأجل.


إرهاق الذات في حروب عبثية


بدلاً من الاكتفاء بإدارة تفوقها بحذر، اندفعت واشنطن في سلسلة من الحروب والتدخلات. من البلقان إلى أفغانستان والعراق، تصرفت كما لو أن القوة العسكرية تكفي لإعادة تشكيل المجتمعات. لكن النتائج جاءت عكسية: تريليونات الدولارات تبخرت، مئات الآلاف قُتلوا، والهيمنة الأميركية فقدت بريقها. الأهم أن هذه الحروب فتحت الباب لمنافسين استراتيجيين لملء الفراغ.


صعود الصين وعودة روسيا


في الوقت الذي كانت فيه أميركا تغرق في أزمات الشرق الأوسط، كانت الصين تبني اقتصاداً صناعياً هائلاً وتطور جيشاً حديثاً ينافس في التكنولوجيا والفضاء والبحار. أما روسيا، فقد خرجت من عقد التسعينيات المظلم لتعود لاعباً عسكرياً شرساً في جورجيا، ثم في أوكرانيا. ومعهما بدأت قوى إقليمية كإيران وتركيا والسعودية تسلك مسارات مستقلة، مستفيدة من تراجع الهيمنة الأميركية.


عالم يتفكك


اليوم، نحن أمام نظام دولي يتجه نحو تعددية قطبية غير مستقرة. القوى الكبرى تتنافس على النفوذ، التحالفات تتبدل، والاقتصاد العالمي نفسه بات ساحة للصراع. العقوبات، الحروب التجارية، والقيود التكنولوجية أصبحت أدوات مواجهة يومية. ومع وجود ملفات متفجرة مثل تايوان وأوكرانيا والشرق الأوسط، فإن خطر الانزلاق إلى مواجهة مباشرة بين الكبار بات أكبر من أي وقت مضى.


خطيئة الغرور


الخطأ الأكبر لواشنطن كان الاعتقاد أن التاريخ انتهى لصالحها وأن قيمها قابلة للتصدير بلا مقاومة. تجاهلت حقائق الجغرافيا والتاريخ والقومية، فاستفادت الصين من العولمة لتتحول إلى منافس ندّي، واستفادت روسيا من توسع الناتو لتبرر عودتها بقوة. وهكذا، أضاعت أميركا فرصة تثبيت هيمنتها بحذر، واختارت بدلاً من ذلك مسار الغرور الإمبراطوري.


ما بعد الأحادية


اليوم لم يعد السؤال: “هل تراجعت الهيمنة الأميركية؟” بل: “كيف سيتعامل العالم مع هذا التراجع؟”. فالولايات المتحدة ما تزال القوة الأكبر، لكنها لم تعد قادرة على فرض إرادتها وحدها. والتاريخ يعلّمنا أن فترات الانتقال بين أنظمة دولية هي الأخطر، لأنها لحظات مليئة بالحروب وسوء الحسابات.


الخيار أمام واشنطن والعالم واضح: إما إدارة هذه المرحلة بعقلانية عبر توازنات مدروسة وتعاون محدود في القضايا العالمية، أو ترك الأمور تنزلق نحو صدامات كبرى سيدفع الجميع ثمنها.

نشر على مدونة الدكتور علاء التميمي

المنشورات الأخيرة

إظهار الكل
صوت هند رجب … من غزة إلى فينيسيا

لم يكن فيلم “صوت هند رجب” في مهرجان فينيسيا السينمائي مجرد عمل وثائقي، بل شهادة إنسانية على مأساة الطفلة الفلسطينية التي استغاثت عبر...

 
 
 

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page